في كلمته البارحة أمام اتحاد غرف الصناعة والتجارة, قال أردوغان :” إن الشعب السوري يدفع ثمن تصفية حسابات تاريخية, وما تدمير حلب إلا جزءا من هذه العملية” .. وأضاف : “هل تظنون أن الاعتداءات المتكررة على مدينة كلس هو عمل شرذمة من الإرهابيين فقط ؟. كلا , بل هي جزء من عملية تصفيات الحسابات التاريخية ذاتها التي تجري في المنطقة.”
بعيد انتفاضة الثمانينات فرض نظام الأسد الأب عقوبات على حلب شملت جميع مناحي الحياة فيها , من الاجراءات الأمنية , إلى تسلط المخابرات , لكن أهم تلك العقوبات كان في مجال الاقتصاد والتنمية , مما أدى إلى تراجع الصناعية وتخلفها عن اللحاق بتقنيات العصر , إلى درجة أنه سمح لبعض الصناعيين باستيراد آلات ومعدات حديثة من الخارج , لكنه لم يسمح لهم بسحبها من الجمارك ! وتركت محجوزة مرمية حتى أكلها الصدأ إمعاناً في الحقد والتشفي !.
لماذا حلب ؟
تاريخياً كان سنجق حلب يحتل المرتبة الثانية بعد استانبول في دفع الضرائب لخزينة الدولة العثمانية .. كما أن حلب بعمقها التاريخي وإرثها الحضاري تعد الوحيدة التي تملك مقومات الدولة , إذ تشتهر بالزراعة والصناعة والتجارة , والأهم من هذا كله , أنها تملك حدودا دولية .
تحتل حلب موقعا استراتيجيا حساساً بالغ الأهمية , لكل من الروس والايرانيين وحتى الأمريكان , فقد جاء تموضع الروس عسكرياً في منطقة النيرب في خطوة ضمن استراتيجيتهم التي تهدف إلى قطع خطوط الطاقة , البترول والغاز الطبيعي القادم من الخليج وإيران والمتجه نحو أوربا, وبنى الأمريكان قاعدة عسكرية في شمال سورية , كما أن الايرانيين يعتبرون حلب ضمن حدود الدولة الشيعية الكبرى , الأمر الذي دفع مرشد إيران خامنئي ليطلب من قاسم سلماني الاستيلاء على حلب حتى لو كلفه الأمر مائة ألف جندي إيراني !.
هذا فضلا عن أهمية حلب التاريخية والاستراتيجية بالنسبة لتركيا والمملكة العربية السعودية والعالمين العربي والاسلامي .
استراتيجية العدوان الثلاثي الروسي الايراني الأسدي في الهجوم على حلب:
1- منع سيناريو بن غازي:
الأهمية الاستراتيجية لحلب جعل منها هدفاً استراتيجياً لعدوان ثلاثي , روسي إيراني أسدي , كان أحد أهم أسبابه هو منع تكرار سيناريو بن غازي , من خلال الهجوم الاستباقي بهدف القضاء على احتمالية هذا الخيار , لأن القوى الدولية وأمريكا تحديداً عندما قررت التخلص من نظام القذافي منعته من اقتحام مدينة بن غازي , التي شكلت فيما بعد محطة الانطلاق لإسقاط نظامه.
2- ضرب البنى التحتية:
من الملاحظ بوضوح أن نظام الأسد وحلفاؤه لا يقومون بضرب الأهداف العسكرية , إنما يعملون على استهداف البنى التحتية , والحياة المدنية .. يقومون باستهداف المدارس والأسواق والمساجد , هدفهم من ذلك تحطيم البديل .
3- سياسة التهجير:
يتبع النظام والروس استراتيجية تهجير السكان , ودفعهم للجوء إلى بلدان الجوار , من خلال قصف وتدمير الأماكن المأهولة الخاضعة لسيطرة المعارضة في المرحلة الأولى , ثم قصف المخيمات القريبة من الحدود لدفعهم إلى النزوح لدول الجوار . فعندما يتحول النازحون إلى دول الجوار يصبحون عالة ومشكلة تستنزف ذلك البلد .. إذ يحتاج هؤلاء إلى الإغاثة وتأمين الاحتياجات الضرورية , والحماية الأمنية , ومشكلة التعليم .. وغيرها .
الأطماع الإيرانية في حلب:
1- الإيرانيون ونموذج الضاحية الجنوبية:
تقوم استراتيجية التموضع الإيراني على اختيار المدينة المستهدفة , ثم يتم توطين شريحة من منتسبي المذهب الشيعي ممن يدينون بولاية الفقيه في منطقة معينة من تلك المدينة , حيث يتم دعمهم وتزويدهم بجميع الاحتياجات الضرورية للبقاء هناك , وفرض نموذج حياة دينية واجتماعية مستقلة خاصة بهم .. بعد فترة من الزمن يضيق سكان تلك المنطقة ذرعا بتصرفات هؤلاء , فيبدؤون بترك منازلهم والرحيل , وغالبا ما يلجؤون لبيع بيوتهم للسكان الجدد , الذين ما يلبثون غير بعيد حتى يصبحوا السواد الأعظم , ويشكلوا ما يشبه الكانتون المستقل الخاضع لولاية الفقيه دينيا واجتماعيا.
للتذكير فقط فإن سكان ضاحية بيروت الجنوبية كانوا من الطائفة المارونية من ذوي الدخل الجيد , لكن عندما بدأ بعضهم بالهجرة لأوربا وأمريكا , اشترى منهم الشيعة بيوتهم , وكان السكان الجدد على درجة عالية من الغلظة القسوة والبداوة ما اضطر البقية الباقية من الطائفة المارونية للهروب من الضاحية , ليحل هؤلاء محلهم ضمن خطة مدروسة جعلت منهم كانتونا يتضخم شيئا فشيئا حتى تغول على الدولة اللبنانية بكاملها, وأصبح دولة داخل دولة .
السيناريو نفسه تكرر في مدينة الصدر , ويجري تنفيذه على قدم وساق في منطقة الست زينب بدمشق , وقد قام الإيرانيون مؤخرا بوضع حجر الأساس للمشروع ذاته في منطقة المشهد , وحريتان بحلب .
2- الإيرانيون من مرحلة الدعم إلى مرحلة النفوذ:
سمح الأسد الأب للإيرانيين بممارسة نشاطاتهم التبشيرية وطقوسهم الدينية ضمن هامش معين لم يسمح لهم بتجاوزه , وعلى الصعيد السياسي فقد حافظ على علاقات قوية مع إيران , لكنها كانت متوازنة متكافئة .. لكن بشار الأسد لم يتمكن من الحفاظ على معادلة والده الدقيقة , إذ سرعان ما وضع كافة بيضه في سلة إيران , وخصوصا بعد انطلاق الثورة السورية ضد نظام حكمه , فقد ارتهن لإيران بشكل شبه كامل .
بناء على ذلك فقد انتقل الايرانيون من مرحلة دعم نظام الأسد إلى مرحلة تشكيل مناطق نفوذ لهم داخل سورية .. و هذا لم يقتصر على الزج ب “حزب الله ” بكامله في أتون الحرب السورية فحسب , بل تعداه إلى إنشاء مناطق شيعية في دمشق العاصمة , ومنطقة الساحل , وريف حلب .
ولأن كان السيناريو البديل لبشار السد هو تقسيم سورية , وإقامة دولة علوية في منطقة الساحل مطروحا في بداية الثورة , فقد حل محله السيناريو الإيراني القائم على تأسيس دولة شيعية لا علوية . وهذا يفسر سلوك الإيرانيين في المفاوضات بشكل مباشر مع فصائل الجيش الحر , والتي ركز فيها الطرف الإيراني على عامل الهندسة الديمغرافية بما يخدم هدفه الأساس في إقامة الدولة الشيعية .
حلب إلى أين ؟
لعل من أهم خصائص هذا الحلف الثلاثي المدمر هو تجاربهم الطويلة في القمع والإرهاب وإجهاض الثورات .. فقد قمع الروس ثورة الشيشان , متبعين سياسة الأرض المحروقة , وتركوا عاصمتها جروزني أثراً بعد عين , كما تتجلى خبرة الإيرانيين في قمع الثورة الخضراء التي عمت ايران عقب قيام الداخلية الايرانية بتزوير الانتخابات لصالح أحمدي نجاد بعد أن كان الفائز فيها مهدي كروبي عام 2009 , أما خبرة نظام الأسد في القمع فقد فاقت كل تصور , من مذابح حي المشارقة غرة عيد الفطر عام 1980 , إلى تهديم البيوت فوق رؤوس أهلها في جسر الشغور , إلى تدمير مدينة حماة بكاملها .
لقد مارس العدوان الثلاثي الروسي الإيراني الأسدي على حلب كل صنوف القتل والتدمير والتهجير , لكنهم لم يتمكنوا من الحسم حتى اليوم , وبقيت حلب الشهباء صامدة , بل إنها كبدت الإيرانيين خسائر جسيمة في مدينة خانطومان أفقدتهم صوابهم .
لكن نظرا لأهمية حلب الاستراتيجية , فستبقى معركتها معركة استنزاف عسكري , واستنزاف اقتصادي , واستنزاف سياسي لجميع الأطراف .
سورية الوطن تعيش مخاض عملية تقسيم , ليس جغرافيا بالضرورة , إنما تقسيمها لمناطق نفوذ بين القوى العالمية والإقليمية , ومعركة حلب هي المفتاح .
محمود عثمان – ترك برس