“مو قادرة صدق أنو تعب عمرنا صار رماد”، نطقت أم محمد بعد أن شاهدت منزلها وكل ما فيه غبار متناثر، بياض اتشح بالسواد، ظلمة غمرت المنزل في وضح النهار. آلاف البيوت السورية، طالتها رصاصات نظام الأسد الحارقة لتحولها لفتات رمادي، فقط لأنها قابعة في مناطق خرجت عن سيطرة النظام. عبارة ( من هنا مروا رجال الأسد) خلفت وراءها صمتاً خيم على الأرجاء، رؤوسٌ خنعت مرغمة، طرقات فارغة إلا من الدمار ، 35 ألف جندي لقوات النظام السوري مدعمين بالعتاد الكامل اقتحموا مدينة إدلب في 3 مارس 2012 على زعمه أنها أكبر حاضنة للإرهاب في سوريا .
أم محمد تقول:” في الخامسة صباحاً استيقظنا على دوي المدافع البعيد، أيقنا أن جيش بشار سيقتحم مدينتنا، تقطع دهشتنا قذيفة سقطت أمامنا على منزل جارنا، تعالى صوت زوجي المتوتر (بسرعة نزلوا من البيت وجهوا المدفعية عحارتنا والطوابق الأخيرة أخطر شي ركضوا)، ابنتي الصغيرة بعمر السنتين كانت خائفة، تأملت منزلي بنظرة أخيرة سحبتني ابنتي الكبيرة فالقذائف بدأت تتوالى قربنا، لكنها تلملم بيدها الثانية ما تيسر حمله عساها تحمل أكبر عدد من الذكريات”.
مدينة إدلب تم اقتحامها من أربعة محاور بالدبابات والأسلحة الثقيلة والمتوسطة بعد عدة محاولات فاشلة، رغم أنه لا يوجد بداخلها سوى عشرات الشباب المسلحين المناهضين للنظام السوري من أبناء المدينة، كان غايتهم حماية تلك المدينة المنسية التي واجهت ظلم النظام من زمن الأب لزمن ولده بشار.
تضيف أم محمد: ” ساعات مضت وبات دبيب الدبابات يسيطر على مسامعنا تزامناً مع اختفاء صوت التكبيرات، فالآن ضجت وسائل إعلام النظام فرحاً فأكبر مدينة حاضنة للمسلحين وقعت تحت سيطرتهم، لليوم الثاني والرعب يحكم نفوسنا والشحوب ظاهر على وجوهنا جميعاً، إلى أن صدمت بخبر تنقله جارتي إلى مسامعي:” بيتكن عم يحترق والنار شعالة لبرا شبابيكو، والجيش ما عم يسمح للإطفاء بإخماد الحريق”، و في صباح اليوم الثالث أصررت أنا وزوجي على الذهاب ورؤية ما حل بمنزلنا، لكن الأصعب من ذاك كله عندما صدونا وأعادونا خائبين.
اتخذ جيش الأسد من الملعب البلدي في المدينة معتقلاً لشبابها ودوار الشهداء ثكنة عسكرية للأسلحة ينطلقون منها لتمشيط الأحياء عقب قصفها عن بعد، في حين أنهم منعوا الأفراد من الصلاة في المساجد.
في اليوم الرابع و لا تزال النار تأكل في جسدها قلقاً كما أكلت جدران منزلها قبل ذلك، همت هي وابنتها للذهاب إلى منزلهم رغم اضطراب الأوضاع الأمنية، و ربما كانت حياتهما ثمنا لذلك، فور وصولهما لفتت أنظار الجميع إليهن وهمساتهم ” الله يصبرن بيتن أول بيت بإدلب انحرق”، تصعدان الدرج بخطوات للأمام تارة والخلف تارة أخرى، توقفتا أسفل الدرج والحياة من حولهما توقفت ونظراتهما الملوعة قد سبقتهما لذاك البيت المحفوف باللون الأسود، زخات رصاص ضربت الحائط قربهما ما جعلهما يركضان إلى الأعلى، كانت أقدامهما تدعسان على رماد أثاث بيتهم وكأنهما تدوسان أرواحهما المتعلقة بكل قطعة فيه مجبرين، ليقطع إحساسهما مشهد الأب والدمعة مغرغرة بعينيه وهو يقلب كفيه ويتلمس بهما أثار ما تبقى من شقاء عمره المترافقة بترديده لعبارة ” انكسر ضهري ياربي، ضاع كل شي بنيتو من سنين”.
كانت قناصات النظام منتشرة على جميع الأسطح لتقتل المارين، ناهيك عن قيامهم بثلاثة مجازر ارتقى على إثرها عشرات الشهداء عند جامع بلال ومدرسة خولة، فضلاً عن حرق أكثر من 21 بيت في الحارة الشمالية.
من مارس 2012 عندما اقتحم جيش النظام مدينة إدلب إلى مارس 2015 موعد اندحار قوات الأسد على يد مقاتلي جيش الفتح، بقيت الكثير من عائلات إدلب مهجرة عن بيوتها، مستقرة بمزارع قريبة منها بسبب اعتقالات النظام أو عدم صلاحية منازلهم للسكن، آنذاك ذهبت أم محمد لمنزلها لتجري له بعض الترميمات بمحاولة منها للسكن فيه من جديد، بعد أن استردت الحياة في إدلب رونقها بقدوم معظم سكانها الذين غادروها قسراً.
تختم بنبرة متفائلة،” كابوس عشت تفاصيله بين الواقع والخيال، أحمد ربي ليل نهار أنه أدام لمة عائلتي حولي وجعل مصيبتي بالمال وليس بالأبدان، تجهيزات عروس ابني الكبير وجميع صور عائلتي من عشرات السنين، أضحت هباء منثورا، لكن تحرير مدينتي بعد 4 سنوات من الذل، أعاد لنا قسطاً من الراحة النفسية لأنه انتقم من الظالم بشار الذي قتل وشرد أبناءها”.
محار الحسن
المركز الصحفي السوري