أكياس من الملابس المكدسة هنا، وقطع من القماش هناك، تجلس منار خلف ماكينة الحياكة وبملامح وجهها المتعب والممزوجة بالتفاؤل والأمل تروي حكايتها التي حبكتها سنوات الحرب الخمس، وأثرت على حياتها وحياة عائلتها بكل تفاصيلها.
” أعمل معلمة لغة إنكليزية في مدرسة للبنات في مدينة ادلب، وبعد تحرير المدينة اضطررت وعائلتي النزوح إلى إحدى القرى المجاورة خوفا من قصف النظام والذي صب جام غضبه بعد خسارته للمدينة، استقبلتنا عائلة بسيطة في القرية وفتحت لنا بيتها وأكرمتنا كما لو أنهم يعرفوننا من قبل”.
وتتابع منار حديثها:” كانت أم عمر صاحبة البيت تعمل بالخياطة، فتملكتني رغبة قوية بتعلم هذه المهنة التي تتطلب ذوقا رفيعا ودقة وإتقان، بعد أن أنهكتني حياة الفراغ والخوف من أن تطول مدة نزوحنا بعيدا عن سقف بيتنا وبلدنا، ولم يكن بحوزتنا سوى بعض المال المدخر لذلك قررت أن أعمل بالخياطة، فتعلمت منها بعض الأمور الأساسية، وحاولت مرارا إلى أن أتقنت صنع بعض القطع بإشراف منها”.
حال منار كحال غيرها من العاملين في مؤسسات الدولة، فكان هناك تساؤلات حول ما إذا كان النظام سيستمر بتقبيضهم أجورهم الشهرية أم أنه سيكف يده عنها بعد خروجها عن سيطرته، فحاول معظمهم البحث عن مصادر رزق بديلة تؤمن لعائلاتهم حياة كريمة تغنيهم عن الحاجة لغيرهم.
تضيف منار:” ثلاثة أشهر من النزوح كانت كفيلة بأن أجيد الخياطة، وبعد عودتي للمدينة اشتريت “ماكينة” خياطة مستعملة وبدأت العمل، كنت متحمسة بشدة كونني سأجني بعض المال وأساعد زوجي في مصروف البيت، فكانت زميلاتي في المدرسة أول زبائني وهن من شجعنني في العمل”.
كان عمل منار بإصلاح الملابس القديمة أكثر من تفصيل شيء جديد، فمعظم زبائنها من السيدات يقمن بشراء ملابس مستعملة من أسواق “البالة” ويلجأن إليها لتقوم بدورها بتضييقها أو توسيعها أو حتى إعادة صنعها من جديد بما يتماشى مع حاجتهن إليها.
تتابع منار حديثها:” واجهت صعوبة في البداية بتنسيق وقتي، إلا أنني وبقليل من التنظيم استطعت تجاوزها، ففي الصباح التزم بدوام المدرسة، وبعد الظهر أعمل بشغل الصوف باستخدام “السنارتين” وأقص القماش لأفصله من جديد، وعند المساء عندما تعمل مولدة الأمبيرات، أقوم بالحبك والدرز وكي الملابس بعد أن تصبح جاهزة، وفي أيام العطل أعطي دروسا خصوصية في اللغة الإنكليزية للطالبات”.
كانت فكرة منار صائبة عندما فكرت بعائلتها وأولادها قبل نفسها، فمديرية التربية المؤقتة التابعة لادلب ومقرها مدينة حماه، تعهدت بتقبيض رواتب العاملين فيها والذين التزموا بدوامهم في مدارس محافظة ادلب، إلا أن محافظ المدينة خير الدين السيد أخل بالوعد وأوقف رواتب العاملين الذين لم يلتحقوا بالمدارس في مناطق النظام، ليكون مجموع الرواتب غير المقبوضة 4 أشهر، في ظل صمت وتعتيم لمصير هؤلاء العاملين .
تمثل منار بقوتها وتفاؤلها وابتسامتها التي لاتفارق وجهها مثالا لكل امرأة سورية مناضلة، تحدت الظروف وواجهت الصعاب في سبيل أن تحيا عائلتها بكرامة، بعد أن حاول النظام السوري أن يسلبها من كل بيت سوري بهمجيته وأسلوبه الصريح والواضح في قتلهم وتشريدهم.
المركز الصحفي السوري ـ سماح خالد