الشرق الاوسط _ اكرم البني
بعيداً عن المبالغة والاندفاع إلى حد اعتبار «قانون قيصر» بمثابة إعلان حرب لإطاحة النظام السوري، وبعيداً عن التقزيم والاستهتار بتأثير هذا القانون على نظام منهك ومأزوم اقتصادياً وسياسياً، واعتاد ألا يقيم وزناً للعقوبات، ثمة خمس حقائق تستحق الوقوف عندها لفهم حدود هذا القانون، وما يثار عن أسبابه ونتائجه.
الحقيقة الأولى، هي الدور الجديد والمثابر الذي لعبته الجالية السورية في الولايات المتحدة، على اختلاف مكوناتها، لنصرة هذا القانون، بدءاً بمساهمتها في صياغته والترويج له قبل أكثر من ثلاث سنوات، حتى إقراره، منذ شهور، في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين؛ حيث لم يبخل أبناؤها من فتيات وفتيان عانوا الأمرين من اضطهاد السلطة أو شخصيات سورية نافذة ذات مكانة في الحياة الأميركية، يدعمهم عدد غير قليل من منظمات المجتمع المدني الأميركية – السورية، لم يبخلوا في بذل المال والوقت والجهد لإشهار مشروعية هذا القانون، متوسلين الصور الفظيعة والمرعبة التي سُربت لآلاف المعتقلين السوريين الذين قضوا تحت تعذيب وحشي في سجون ومعتقلات النظام، ثم دعمها بقرائن وجرائم جديدة ارتُكبت بحق المدنيين السوريين، إلى أن تمكنوا من حفز مزيد من المؤيدين له في الهيئات التشريعية والتنفيذية الأميركية، الأمر الذي شكَّل فاجعة ومفاجأة لنظام يعتقد بأنه لا يزال بمنأى عن هذا المستوى من فتح النار الأميركية عليه، ولا يقيم وزناً لأولئك الذين شرَّدهم في شتى بقاع الأرض، بأنهم قادرون على المبادرة وتشكيل مركز قوة مؤثر في مواقف وسياسات الحكومات الغربية، لمساندة أهلهم ووطنهم.
الحقيقة الثانية، هي القيمة الوازنة لنصرة العدالة؛ حين يمنح «قانون قيصر» سلطات واسعة لوزارة الخارجية الأميركية، من أجل دعم المؤسسات التي تقوم بجمع الأدلة، وتتابع الملاحقات القضائية، ضد من ارتكبوا جرائم حرب في سوريا، محفوفاً بمطالبة صريحة بوقف الاعتقالات وإطلاق سراح السجناء، وكشف مصير المفقودين، وتمكين مراقبين دوليين من إجراء جولات في المعتقلات والسجون السورية. ولعل الإشارة إلى أن مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية لا تموت ولا تخضع لمبدأ التقادم، تضع كافة المرتكبين، مهما طال الزمن، تحت سيف المساءلة والمحاسبة، وتنذرهم بأنهم مهما تمادوا في غيهم وجبروتهم، وحاولوا إخفاء جرائمهم، فلا بد من أن يخضعوا للعقاب، ويحصدوا ما زرعوه من آثام، ليبدو الأمر كأنه استمرار لجهود حقوقيين سوريين تعاونوا مع مؤسسات قضائية أوروبية، في ألمانيا وفرنسا والنمسا، لمتابعة ومحاكمة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في سوريا، وإنزال القصاص بمن مارسوا التعذيب والاغتصاب والقتل بحق المدنيين.
الحقيقة الثالثة، أن هذا القانون يحبط بصورة حاسمة شهية السلطة لإعادة الإعمار بعد ادعائها الانتصار، ويجهض تالياً مختلف الخطط والمشروعات التي كانت تعد على نار حامية، من قبل مستثمرين سوريين أو غير سوريين، ومن شركات أوروبية وأميركية وصينية وروسية وإيرانية، وضعت نصب أعينها تقاسم ملف إعادة الإعمار؛ حيث إن عقوبات «قانون قيصر» تطال كل الشخصيات والمؤسسات الأجنبية التي تتطلع لتمكين النظام أو أي جهة تقدم دعماً مالياً أو تقنياً أو بضائع، أو تنخرط بصفقات مع السلطة السورية لتساعدها في استعادة سيطرتها على البلاد والعباد، هذا فضلاً عن أنه يوجه تحذيراً لدول عديدة نشطت في الآونة الأخيرة للتطبيع السياسي والدبلوماسي مع النظام السوري، كالمجر وقبرص وإيطاليا، بما في ذلك ردع انفتاح السلطة اللبنانية على حكام دمشق، وتعميق أزمتها بحكم التداخل بين الاقتصادين، وتراجع رهان الرساميل اللبنانية على المساهمة في إعادة إعمار سوريا.
الحقيقة الرابعة: يساهم «قانون قيصر» في تفعيل الدور الأميركي في الملف السوري، بعد قرارات متعجلة للبيت الأبيض بتركه لمصيره، والانسحاب من تبعاته، ليغدو هذا القانون اليوم أشبه بورقة ضغط بيد واشنطن ضد التفرد الروسي، وللمشاركة في رسم المستقبل السوري، وما يزيد الأمر وضوحاً عودة القوات الأميركية لتثبيت مواقعها في شرق سوريا وشمالها، فارضة استمرار وجود التحالف الدولي بقيادتها في شرق الفرات، واستمرار سيطرتها على الموارد الاستراتيجية من نفط وغاز، وكأنها تخطط للبقاء هناك فترة طويلة الأمد.
وإذ نعترف بأن الإدارة الأميركية قد تلكأت كثيراً في حماية المدنيين السوريين، وأنها أهملت وتنصلت من «قانون قيصر» الذي صيغ في عهد الرئيس أوباما، مثلما تنصلت وأهملت الخط الأحمر الشهير الذي أنذرت فيه النظام السوري برد حاسم، في حال تكرار استخدام السلاح الكيماوي، نعترف أيضاً بأن مثل هذا القانون لم تتبنَّه القيادة الأميركية لدوافع إنسانية أو أخلاقية فقط؛ بل خضع أساساً لحسابات المصالح ولغايات سياسية، بدليل أنه منح الرئيس الأميركي هامشاً من المناورة في تطبيقه، وحتى تجميده في حال وجد جدية من قبل المتحكمين في الوضع السوري في التعاطي مع الحل السياسي، تاركاً الباب مفتوحاً لتمرير تسوية للصراع السوري وفق مقررات جنيف، تحاصر النفوذ الإيراني، وتضمن لواشنطن حصة وازنة فيها.
الحقيقة الخامسة: صحيح أن عقوبات «قانون قيصر» لا بد من أن تنعكس بمزيد من الضرر والأذى للشعب السوري المتضرر أصلاً من قهر السلطة القائمة وفسادها، وصحيح أنها لن تكون مؤذية كثيراً لنظام لا توجد صلات اقتصادية أو مالية مباشرة بينه وبين واشنطن، ولا يخجل وحاشيته من التنعم بحياة الرخاء والرفاهية، وتحميل الدول الغربية مسؤولية تجويع السوريين وإفقارهم؛ لكن الصحيح أيضاً أن تداعيات هذا القانون سوف تضعف بلا شك المصادر المتنوعة التي كانت تساعد أهل الحكم في الالتفاف على مختلف العقوبات التي اتخذت ضدهم، كما تضعف من قدراتهم على إعادة إنتاج قاعدتهم الاجتماعية، ولملمة المخلفات السلبية لحربهم الدموية، ويرجح أن تساهم في تشديد التوتر والخلاف بين مراكز القوى السلطوية، في ظل تجميد إعادة الإعمار، وما تشهده الليرة السورية من تدهور، وأحد وجوهه تنامي الخلافات والاتهامات بين رأس النظام ورامي مخلوف، هذا عداكم عن أنها قد تشجع غالبية السوريين الجوعى والمنكوبين على التمرد، وتحفز هممهم للوقوف في وجه نظام حكم أوصلهم إلى هذا الدرك من الفقر والعوز، وربما تكون أخبار عودة المظاهرات السلمية المطالبة بإسقاط النظام في مدينتي السويداء ودرعا، هي بداية الغيث.
نقلا عن الشرق الأوسط