نجاتي طيارة – العربي الجديد
لا يستحق حوار المجرم بشار الأسد مع مجلة باري ماتش، والذي نشرته في الرابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري، الاهتمام والتعليق، فهو مشبع بالكذب والادعاء. لكن، لأن الحديث اهتمت بنشره مجلة فرنسية واسعة الانتشار، ولأن سياق الحدث السوري يمر بمرحلتي “داعش” والتحالف الدولي، رأيت واجب التعليق والرد.
لن أستخدم وصفاً آخر للأسد غير المجرم، فوحده المناسب، فقد ارتكب المذكور ما يطلق عليها القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية. فكان يجب سوقه، أو على الأقل، المطالبة بسوقه إلى محكمة الجنايات الدولية، بدلاً من إجراء “باري ماتش” مقابلة صحافية معه، وبدلاً من السكوت السافر عن جرائمه الموصوفة. لكن، وللأسف، سياسة الدول والإعلام شيء، والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان شيء آخر. والواضح لكل ذي بصيرة أن الفارق بينهما على أشده فيما يتعلق بالمأساة السورية المستمرة.
أما عن المقابلة، واحتراماً لحق القارئ الفرنسي في الاطلاع على الأقل، نقول إن المجرم الأسد يكذب، منذ الجملة الأولى في جوابه الأول، وهذا دأبه. وكان الأحرى بنائب رئيس تحرير مجلة باري ماتش، الذي أجرى المقابلة، أن يواجه ذلك بالحقائق التي تقول: على العكس تماماً. منذ الأيام الأولى، كان الشهداء من المدنيين فقط، ففي درعا سقط الطالب أكرم الجوابرة أول شهداء الثورة برصاص الأمن، يوم الجمعة 18 مارس/آذار 2011، ولحقه حسام عبد الوالي عياش وأيهم الحريري، وشاب آخر، ولم يُجرح واحد من السلطة. ومنذ الأيام الأولى، واجهت السلطة المظاهرات السلمية بالعنف، في درعا وحمص وبانياس، ولم يكن هناك أي سلاح لدى المتظاهرين، بل لم تكن الشعارات ضد النظام، ولا ضد الرئيس حتى، بل كانت كل مطالبها تتركز في درعا على إطلاق سراح الأطفال، ومحاسبة من عذّبهم، وتطورت إلى المطالبة بإقالة المحافظ. كذلك في حمص، إذ خرجت المظاهرة الثانية يوم الجمعة 25/ 3/2011، تنادي بإلغاء الأحكام العرفية، وإقالة المحافظ الفاسد والإفراج عن طلّ الملوحي، الصبيّة العشرينية التي صارت رمزاً للاعتقال التعسفي، ولم يفرج عنها حتى اليوم، على الرغم من نيلها تخفيض ربع المدة التقليدي قبل حوالى العام. أما المستشارة الرئاسية، بثينة شعبان، ففي مؤتمر صحافي شهير مساء 24 /3/2011، اتهمت جمهور المتظاهرين بالفتنة والإرهاب مباشرة، وقالت إن “الرئيس” أمر بعدم إطلاق النار على المتظاهرين، حتى لو أطلقوا وبادروا هم أنفسهم بإطلاق النار. وكان هذا منتهى الكذب والخداع. وحيث لم يكن مسموحاً باطلاع صحافة مستقلة أو مراقبين أجانب على ذلك كله، وفق الوضع السوري المعروف، فقد أطلق رصاص الشرطة والأمن والشبيحة على المتظاهرين السلميين، بعد أقل من 18 ساعة من ذلك التصريح.
”
للأسف، سياسة الدول والإعلام شيء، والقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان شيء آخر
”
وشهدت ذلك بنفسي ذلك اليوم، في حمص، وأعلنته على عدة فضائيات. صحيح أنه لم يمت أحد بالرصاص يومها، بل جرح كثيرون، ومات مجند شاب كان حارساً على باب نادي الضباط، لكنه مات بالحجارة التي لجأ إليها المتظاهرون رداً، وهم هاربون من رصاص الأمن، فاقتحموا النادي المذكور، الذي كان رمزا لكل قباحات النظام، وتسلق اثنان منهم البناء، ومزقا لوحة الأسد الأب، فرفسها أحدهما بقدمه، في منظر صار من أوائل أيقونات الثورة السلمية السورية.
أما الحديث عن دعم قطر وتركيا الإرهابيين، فالجميع يعلم أن البلدين تأخرا في تأييد الثورة السورية، بعدما كانا أبرز أصدقاء النظام وشركائه، ولم يكفّ البلدان، عبر وزيري خارجيتهما، عن زيارة دمشق ونصح المجرم ومطالبته بالإصلاح واستيعاب مطالب شعبه، وبدون فائدة طوال الشهرين الأولين من أحداث الثورة.
لكن، يستغبي المجرم القراء وذاكرتهم، ويمضي في حديثه عن أخطاء الممارسة بطبيعة الأمور، وكأن قتل آلاف المدنيين، وتشريد ملايين السوريين لاجئين، ومحو أجزاء كبيرة من حمص ودرعا وحلب وغيرها، وتدمير سورية وإعادتها قروناً إلى الوراء، مجرد أخطاء طبيعية ومتوقعة في الممارسة، تماثل أخطاء متمرن جديد في لعبة كرة القدم، أو رحلة كشافة.
في جوابه الثاني، يناقض خطاباته الأولى التي اعترف فيها بنفسه بسلمية الثورة، خلال أشهرها الستة الأولى، ويمضي منسجماً مع الرواية التي استكملها ونجح، مع الأسف، في إخراجها وتنفيذها واقعياً في سياق دولي ملائم. وهي رواية تتلخص في أن كل ما حدث من مظاهرات محض إرهاب. لذا، كان لا بد من مواجهته بالسلاح. وذلك، بالضبط، ما يلاقي هوى الغرب الذي تجتاحه، اليوم، فوبيا الإرهاب. وفي ذلك يتابع، فيقول: لو لم ندافع عن الشعب، لما كنا قادرين على الصمود. بينما نعلم جميعاً أن إرهابيي حزب الله هم الذين استعادوا القصير من الثوار، وليس جيشه مدعي الصمود. علما أنهم استعادوا القصير بعد تدميرها، ومسحها بالطيران، كما أن تدخل قوات الباسيج الإيرانية، والدعم الروسي والإيراني لجيشه وخزانته لا يحتاج دليلاً جديداً.
وجرياً على عادته في الادعاء، إن لم نقل أكثر، يرفض أرقام الأمم المتحدة ومصادرها، وكأن لديه أفضل منها، لكنه لا يعلمنا عنها مع ذلك! فتفلت منه، ومن الذين لا شك أنهم أعدوا له الأجوبة، عبارة ستثير الرعب لدى مواليه، فضلا عن أنها تنسف ادعاءاته بتحقيق النصر. ويعترف، أو يدعي، فيها، بأن العدد الأكبر من الضحايا في سورية هم من مؤيديه، على الرغم من محاولته الظهور بمظهر الضحية. فلا شك أن أعداد القتلى هي أحد المؤشرات العسكرية للنصر أو الهزيمة، لكنها هنا، وبتأثير سلاح الطيران وصواريخ سكود والبراميل المتفجرة، والتي يملكها النظام، ولا تملكها المعارضة، كما يعلم العالم بأجمعه، وخصوصا من يمنع الأسلحة عن الجيش السوري الحر. وبتأثير ذلك كله، في التسبب بأعداد هائلة من القتلى المدنيين، ملأت صور مجازرهم الشاشات والصحف، لكي تبرهن انتصاره، لكن ليس على جثث شعبه فقط، بل على آثار سورية وعمرانها واقتصادها وبيئتها كذلك.
”
نعلم جميعاً أن إرهابيي حزب الله هم الذين استعادوا القصير من الثوار، وليس جيشه مدعي الصمود
”
أما الكذبة الكبرى، والأكثر ادعاء وفضائحية، فهو تكراره مصطلح الدولة، الغريب بكل المقاييس عن نظامه، على الرغم من لعبة تحديد المصطلحات التي يتفاصح بها دوماً، وطالما عبّرت عن إحساسه بالنقص تجاه الثقافة والمثقفين. وهو، بذلك، يتعامى عن خصائص نظامه الذي اشتهر بالفوز بنسبة تقارب الـ99% في كل أشكال ومستويات انتخاباته، كما اشتهر بالرئاسة الوراثية، واستدامة العائلة الحاكمة إلى الأبد. لكن، والحق يقال، كان صادقا للمرة الأولى بقوله “من المستحيل لدولة أن تقتل المدنيين”. ولما كان معروفاً بصورة قاطعة، أنه قتل المدنيين، فإن نظامه لا يمثل دولة فعلاً، وبحسب أقواله تحديداً، إنما هو نظام عصابة عائلية، عنصرية ضد الآخرين من شعبها، كما كان نظام سلوبودان ميلوسيفتش، وكما كان نظام الأبارتايد، والمعلم الكبير للتمييز العنصري نظام هتلر!
وحين يعترف بأنه لا يستطيع الحديث عن نهاية الحرب، فيحاول الظهور بمظهر الواقعي، على العكس من كل إعلاناته السابقة عن قرب انتصاره، وقضائه على فلول الإرهابيين، وذلك لأنه فشل عملياً في الانتصار على الثوار، وامتد صراعه معهم حوالى أربع سنوات، ولا أفق يبدو لنهاية الكرّ والفرّ معهم، فقد لجأ للعبة عاطفية تثير السخرية، بحديثه عن كسب قلوب السوريين، وهو المعروف عنه، بكل بساطة: أنه حطّم قلوب كل السوريين، معارضين أو موالين، على السواء.
أما أطرف ما جاء في الحوار، فهو عن اشتراط الإجراءات الدستورية التي يأتي بواسطتها الرئيس، وكأن الانتخابات السورية مجهولة عالمياً، أو كأن تزويرها، ونسب النجاح فيها، لم تعد تثير ضحك الناس في العالم، بل قرفهم، ويأسهم من فشل الأنظمة والمجتمعات العربية أيضاً.
”
لجأ الأسد للعبة عاطفية تثير السخرية، بحديثه عن كسب قلوب السوريين، وهو المعروف عنه، بكل بساطة: أنه حطّم قلوب كل السوريين، معارضين أو موالين، على السواء
”
وحين يستحق القسم الثاني من الحوار بعض الاهتمام، نظراً لجدة الموضوع المتعلق بداعش والتحالف الدولي، فيسأله مندوب “باري ماتش”: “قام سلاحكم الجوي بألفي طلعة على الأقل خلال 40 يوماً، وهذا عدد ضخم. عندما تتقاطع طائراتكم مع طائراتهم، مثلاً، وهي في طريقها إلى قصف الرقة، هل هناك تنسيق بينكم أو اتفاق عدم اعتداء؟” هنا، يكاد المجرم يشير إلى تنسيق غير مباشر بين قواته وضربات طيرانه وبين قوات التحالف الدولي. لكنه لا يكشف أن تلك الضربات لم تصب أحداً من داعش، على الإطلاق، في غاراتها تلك، بين يومي الثلاثاء والخميس الأسودين 25/ 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بل أصابت كثيرين من أهل الرقة، وأرسلت 305 منهم مباشرة إلى الجنّة.
وبالطبع لن يحب أن نذكّر بإفراجه المدروس، أوائل الثورة، وفي أوائل الثورة السلمية، عن حوالى 700 سجين إسلامي متشدد، من سجن صيدنايا الشهير، وعلى رأسهم الأربعة، الذين قادوا أكبر القوى الإسلامية التي ستستولي على قيادة الثورة السلمية السورية، وتتابع عسكرتها لاحقاً، وصولاً إلى تحول معظم مقاتليها إلى صفوف داعش. (بموجب أول مراسيم العفو 31/05/2011، أفرج عن زهران علوش، قائد لواء الإسلام لاحقا، ثم جيش الإسلام. وحسان عبود، أبو عبد الله الحموي قائد أحرار الشام، الذي قتل بصورة غامضة، مع حوالى 50 من قادته في اجتماع سري، في أوائل سبتمبر/أيلول 2014. وعيسى الشيخ قائد لواء صقور الشام، وأبومحمد الجولاني أمير جبهة النصرة).
وإذ لا تستحق تفاصيل عديدة، في الحوار، الوقوف عندها، نظراً لارتفاع نسبة الكذب والادعاء وتضخم تأثيرات انفصامه عن الواقع، مثل حديثه عن قبطان السفينة الذي لا يفكر بحياته، بل بإنقاذ السفينة، فإن كل ما هو مكشوف ومفضوح من مسؤوليته عن إغراقها وإغراق مواطنيها في مآس غير مسبوقة في تاريخ الشعوب، يؤكد أن إنقاذ سفينة سورية في أي حل عسكري أو سياسي قادم لا يمكن أن يتم بدون إبعاد مريض ومجرم مثل بشار الأسد.