فارقنا، قبل أيام قليلة، حسين العودات، أبو خلدون، الذي كان وسيظل اسماً ناصع البياض على امتداد الخارطة العربية في مجال الإعلام والصحافة والثقافة والنضال السياسي والانتصار لقيم الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن، فوق هذا كله، كنت أشعر دائماً بأن أهم وصف يليق بحسين العودات، قبل أي حديث آخر، هو: آخر الرجال المحترمين، على الرغم من معرفتي بالطبع بوجود آخرين يستحقون الاحترام والثناء.
حسين العودات من المثقفين والسياسيين القلائل الذين تحرّكهم بوصلة وطنية سورية بحت، ويترفعون عن الذات وأمراضها، ولا أبالغ، عندما أقول إنه من المثقفين والسياسيين أسوياء العقل والروح والنفس القلائل. إنه، بتكثيفٍ أشد، من فئة المثقفين والسياسيين النبلاء.
تعرفت إليه منذ نحو عشرين عاماً، وكنت أراه دائماً رجلاً عاقلاً وحكيماً، لا يفتنه مال أو جاه أو موقع، يُتقن جهاد النفس الأمّارة بالسوء، يدير ظهره للمعارك الصغيرة، يضع نفسه دائماً خلف الجميع، وفي آخر الصفوف، عندما يتعلق الأمر بالمغانم والمكاسب.
آمن أبو خلدون، منذ اللحظة الأولى لثورة السوريين، أنها لم تكن ضد السلطة الاستبدادية القائمة فحسب، بل ضد مرحلةٍ بأكملها، بما اختزنته من قوى وشخصيات وأيديولوجيات. لذلك، رأى أن عماد الثورة هم الأجيال الشابة، على النقيض من تلك الديناصورات التي أرادت أن تأكل زمن غيرها، بعد أن أكلها زمنُها ولفظها. أليس غريباً أن يتحول كثيرون من أهل الثقافة والسياسة، خلال سنوات الثورة، إلى مجرد لاهثين وراء الإعلام أو اللقاءات مع سفراء الدول ومندوبيها؟!. لا عجب في ذلك، فالصغار والفارغون هذا سعيهم واهتمامهم، فيما الكبار والممتلئون يحسبون خطواتهم باتزان. ولا عجب إذاً أن نقول: هم راحلون وحسين العودات باقٍ.
يختلف حسين العودات عن أبناء جيله في أنه يتجاوز نفسه باستمرار، فيما هم تخثّروا عند مرحلةٍ معينةٍ، وأكلت عقولهم الأيديولوجيات والأوهام. إنه يتقن الاعتذار، عندما يعتقد أنه أخطأ في أمرٍ أو تقديرٍ ما، وكثيراً ما يسمعه المرء، يقول “كنت أهبل في لحظةٍ من اللحظات”. مثل هذه العبارة لا يقولها إلا كل ممتلئ وحقيقي.
كان مجتهداً ومواظباً على العمل والكتابة، حتى في لحظات الموت. أنهكته عيناه في السنوات الأخيرة، لكنهما لم تمنعا عقله وروحه من متابعة كل شيء، تحرّكه روح وثّابة، ويسنده عناد عجيب. قلائل هم من يستطيعون الاستمرار في الكتابة، وهم يعرفون أنهم سيفارقون الحياة قريباً. هذه من سمات الأنبياء فحسب، أولئك الذين يؤمنون بالأجيال الجديدة، ويشعرون بواجبهم تجاهها. إنه كالفارس النبيل الذي يظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة، فارس لا يدفعه اقتراب الموت نحو الضرب في المناطق الممنوعة.
قبل التوافق والاختلاف معه في الفكر والسياسة، هناك حسين العودات الإنسان الذي يجعلك تحبّه، وتشعر بدفئه وصدقه في كل لحظة. لا أملك إلا أن أضحك كلما تحدثنا، يمزج النكتة بالمأساة وبالفكرة العميقة. وفي خلفية الحديث، تجد روحاً صادقةً، لا يمكن إلا أن تقدِّرها مهما اختلفت معه. نادراً ما أحفظ النكات، لكن نكات حسين العودات لا تُنسى.
ينزع بعضهم صفة الثورية عن حسين العودات، بالاعتماد على مقاييسهم التي تشوبها ألف شائبة. ليس أبو خلدون ثورياً عندما يكون المقصود بالثورة الصراخ والجعجعة والشتائم، فهو يبني علاقةً سوية بين الثورة والسياسة، جذريٌّ في مواقفه، لا تنقصه الجرأة والوقاحة، عندما تكون هناك حاجة إليهما، لكنه يؤمن، وهو محق، أن الأداء السياسي الصائب، والمستند إلى المعرفة، هو الذي يخدم ثورة السوريين.
بعد وفاته، كتبت عنه قوى وهيئاتٌ وشخصياتٌ سورية عديدة، جاء أكثره في إطار الواجب،
“ينزع بعضهم صفة الثورية عن حسين العودات بالاعتماد على مقاييسهم التي تشوبها ألف شائبة” خصوصاً أنني أعرف أنه لا يودّهم في الحقيقة، بل كثيراً ما عبّر عن انزعاجه من بعضهم، بسبب “هبلهم” أو “انتهازيتهم” أو “قلة عقلهم”، على حد تعبيره، خصوصاً أن من هؤلاء من أرادوه، بشكل أو آخر، شاهد زور على انحطاطهم ومواقفهم وممارساتهم البائسة.
كلنا يعلم، اليوم، أن وجود المرء في أي هيئة سياسية “معارضة” لا يعني أنها تستنفده، أو تعبِّر عنه كلياً بالضرورة، فشخصيات كثيرة عملت تحت عنوان “لعل وعسى” أملاً في تقليل الخسائر والأضرار، وليس قناعةً بما هو موجود. لامني أبو خلدون كثيراً، في بدايات الثورة، على ابتعادي من أجواء المعارضة التقليدية والهيئات والمجالس والائتلافات التي تشكلت، ثم شدّ على يدي بقوة: “حسناً فعلت”. وهكذا فعل فيما بعد.
مع حسين العودات، يكون المرء في حضرة جلالة التاريخ، فضلاً عن كونه ممتلئاً بقصص البسطاء من الناس، يذكرها بشغف، ويعتمدها كثيراً في قراءة الواقع. متواضع بلا تصنّع، بعيدا من التواضع المرضي الذي يختصّ به “اليسار العربي” عموماً الذي انفجر تواضعُه احتقاراً للبشر في لحظة الثورة. مع أبي خلدون، يعشق المرء العروبة. عروبة حضارية وثقافية بلا أوهام عن الذات والآخر، وبلا استبداد وإقصاء، وبلا ادعاءات وخطابات رنانة.
اعتقلنا معاً في مايو/ أيار 2005 ثمانية أيام، إثر تخطيطنا المشترك، إضافة إلى الصديق علي العبدلله، لندوة حول الإصلاح السياسي في سورية آنذاك. لا أحد يستطيع أن يعتقل روح حسين العودات، فقد أمضى تلك الفترة يقصّ علينا الحكايات التي تجعل المرء ينفجر ضاحكاً.
أذكر أيضاً كيف ضحك من قلبه في أثناء اعتصامنا أمام القصر العدلي في دمشق في مارس/ آذار 2005، عندما هجم عليه أحد شباب المدارس الثانوية الذين جلبتهم أجهزة الأمن لتفريق الاعتصام. خاطبه ذلك الشاب، قائلاً: أنت عميل للإمبريالية، فكاد أبو خلدون يختنق من كثرة الضحك، فيما دُهش الشاب من جوابه بلهجةٍ حورانيةٍ تزيد إجابته الصادمة متعة: “أنا لو طالع بيدي أصير عميل للإمبريالية ما قصّرت، إنت مفكر بيقبلوا أي واحد يصير عميل عندهم، شو بدهم بواحد مثلي“.
اعتدت سماع صوته، كلما غادر دمشق، فقد كان يتصل بي، ويستفيض في بثّ آلامه وشجونه. كان متألماً جداً تجاه أحوال أصدقائه، وكيف أصبحوا خلال السنوات الأخيرة والمحطات التي وصلوا إليها. لم يتردّد أبداً في سنوات ما قبل الثورة في مساعدة أصدقائه، خصوصاً عندما يُلقى بهم في المعتقلات.
عرفت، أخيراً، أن حالته الصحية تدهورت سريعاً، اتصلت بابنه باسل، وحاولت الاتصال به مرات عدة، لكن الشبكة “الحكيمة” في دمشق لم تسعفني. كثيراً ما جالت في خاطري عودة سهرتنا الشهرية المعتادة في منزلي مع بقية الأصدقاء.
رجال يرحلون فتبكيهم أسرهم، ورجال يرحلون فيبكيهم الأصدقاء، ورجال يرحلون فيبكيهم الوطن… سورية اليوم تبكي أحد رجالها المحترمين. سلام عليك حاضراً وغائباً، يا أبا خلدون، فقد كنت كبيراً في حياتك، وستشمخ كثيراً بعد الغياب.
العربي الجديد