لم يعد السوريون يثقون بشيء مما يسمعونه من تصريحات كثيرة من قادة العالم حول قضيتهم، لقد فقدت هذه التصريحات مصداقيتها مثلما فقد أصحابها احترام الناس لهم، وباتت كلماتهم مجرد مادة للتداول الإعلامي الباهت، وبات السوريون يتذكرون قول شاعرهم أبي تمام “السيف أصدق إنباءً من الكتب”. وفقدان أمل الشباب بحلول سياسية حكيمة توقف شلالات الدم يجعلهم أمام خيارات محدودة، فإما التعرض للاعتقال والموت تحت التعذيب، وإما الهرب من ساحات الموت إلى الهجرة عبر مغامرة مع الموت ذاته، وإما حمل السلاح ومواجهة الدم بالدم.
لقد نجحت عملية خلط الأوراق، وصار اللعب السياسي بدم السوريين ملهاة تراجيدية، وبات موقف مجلس الأمن مدعاة للسخرية حين يصدر قراره الشهير 2254 فتوافق عليه المعارضة ويعطله الروس الذين صاغوه في مجلس الأمن، تماماً كما صار وضع اتفاقية الهدنة التي صاغتها روسيا مع الولايات المتحدة وسرعان ما اخترقتها روسيا ذاتها عبر طيرانها الذي لم يتوقف. وقد كان مفجعاً أن يتم تجاهل دعوة الهيئة العليا للمفاوضات إلى هدنة في شهر رمضان المبارك، وأن يتصاعد القصف على كل المناطق وبخاصة على حلب وإدلب وحمص وريف دمشق. وقد كان كل الضحايا من المدنيين الذين تطالبهم روسيا بالابتعاد عمن تسميهم إرهابيين وهي تعلم أنهم محاصرون من كل الجهات! ولم تسمح الولايات المتحدة بإقامة منطقة آمنة يلجأ إليها مئات الآلاف من الأسر التي باتت في العراء هرباً من القصف اليومي، وهم يعلمون أن الحدود البرية مع تركيا مغلقة، وقد أغلقت كذلك الحدود مع الأردن مؤخراً لأسباب أمنية، وبات على ملايين السوريين أن يستقبلوا الصواريخ بأجسادهم العارية، وأن يقدموا أنفسهم وأطفالهم للموت تحت أنقاض منازلهم.
وإصرار النظام على تسمية غالبية الشعب السوري حاضنة للإرهاب وسعيه لإبادة ما يسميه الحاضنة يعني قتل ملايين من المواطنين، وليس سراً أن أهل السُّنة وهم الغالبية العظمى من الشعب باتوا يشعرون بأنهم هم المستهدفون ولاسيما أن شعارات إيران و”حزب الله” الطائفية تذكي شعور المظلومية السُّنية وقد أقحمت على الثورة السورية التي أطلقت شعار الكرامة والحرية وبناء الدولة المدنية، ورفض ملايين السوريين زج الأديان والمذاهب والأعراق في هذا الصراع السياسي.
كنا نأمل أن يستجيب النظام وحلفاؤه لما طلبناه من هدنة في شهر رمضان، وكان من الممكن أن تكون فاتحة لإمكانية استئناف المفاوضات بعد عيد الفطر، ويبدو أن “دي مستورا” سيحاول استئناف المفاوضات في شهر أغسطس القادم، على رغم أن خطاب الأسد الأخير في مجلس الشعب سد منافذ الحل السياسي، وجدد رفضه لإنشاء هيئة حكم انتقالي، وأعلن إصراره على متابعة الحل العسكري مستعيناً بالغرباء على شعبه، مصمماً على وصف كل من يعارضه بأنه “إرهابي” و”خائن”، وهو متمسك بكرسي الحكم حتى لو أبيد الشعب كله! والعالم يحرص على ألا يكون هناك غالب ومغلوب، وسيبقى الصراع مفتوحاً لا نهاية له، على رغم التصريحات المتوالية عن نفاد صبر روسيا مقابل نفاد صبر الولايات المتحدة، والحقيقة أن الوحيد الذي لم ينفد صبره هو الشعب السوري الذي تحمل من الفواجع والمحن ما يصعب وصفه.
لكن انتقال الصراع إلى المحيط الإقليمي والدولي سيجعل العالم كله يعيش توتراً أشد مما كان أثناء الحرب الباردة، فإيران بدأت تطلق تصريحات تهديد مباشر لجيرانها العرب، وتوحي بتفجير الوضع في البحرين والكويت بعد توسعها العدواني في العراق ولبنان وسوريا واليمن، ويبدو أنها تنظر إلى التوسع الفارسي الإمبراطوري على أنه قضية وجودية، فهي غير قادرة على العيش داخل حدودها دون تمدد وتصدير سلطوي ومذهبي. وأصدقاء إسرائيل يجدون في هذا السلوك الإيراني ما يخدم المشروع الإسرائيلي حيث يحل الصراع السُّني الشيعي محل الصراع العربي الإسرائيلي. وما دام المسلمون ينشغلون بقتال إسلامي (سُني وشيعي) فإن ذلك يحقق أمن إسرائيل الذي كان وما يزال الهم الشاغل لدول الغرب.
وقد انشغل العالم بتصريحات تحدثت عن الخطة “ب”، وهناك ترقب غائم لموعد الأول من أغسطس القادم، ومع التقليل الأميركي من شأن الخطة والموعد، نجد ضخاً جديداً للتصريحات، ودعوات لتدخل عسكري دعا إليه دبلوماسيون أميركان ضاقوا بصمت بلادهم على مجازر ضد الإنسانية. ولسنا بحاجة إلى مزيد من التدخل الأجنبي ومن الدمار والدماء، وحسبنا أن يكون أعضاء مجلس الأمن جادين وحاسمين في تنفيذ القرار 2254 دون هرطقات في التفسير.
الاتحاد