لطالما حملت الرايات معانيَ وطنية، وأمنت ترابطاً قوياً للجيوش في أثناء المعارك والغزوات، وسهلت تناقل التعليمات والخطط بين أفراد الجيش الواحد. واستُخدم العلَم حديثاً للدلالة على الحضور والاستمرارية، فأصبح للأندية الرياضية ضمن البلد الواحد أعلام متباينة، وللمؤسسات الأمنية، كالشرطة والجيش، شعارات خاصة، انضوت كلها تحت لواءٍ جامع يمثل الدولة التي تدير مؤسساتٍ تدين جميعاً بالولاء لها ولعلَمها.
كنا طلاباً صغاراً نصطف في ساحة المدرسة لتحية العلم، ونردّد شعارات تمجد القائد، وتؤبد حكمه على سورية، ضمن عمليةٍ ممنهجةٍ لإيجاد رابط خفي، يجعل من القائد والوطن والعلَم كتلة واحدة متماسكة، لا يمكن فصمها.
حين مهدت الظروف، انتفض السوريون على ذلك كله دفعة واحدة، في رفض مجمل ما هو قائم، وكانت النتيجة، بعد مرور سنوات، انتشار أعلام عديدة وولاءات كثيرة، يخص بعضها عرقاً أو طائفة، ويتبع بعضها لمجموعة أحزابٍ يدين معظمها في قوته لدولٍ وكياناتٍ خارج الحدود.
بعد مرور عدة أشهر على الثورة، استرجع السوريون العلم الأخضر ذا النجوم الحمراء الذي مثَّل سورية عقوداً سبقت الوحدة مع مصر وتلتها. كانت دلالة العبارة “علم الاستقلال” كافيةً لجذب السوريين المنتفضين على حكم الأسد، ووسيلةً للبدء بعملية تغيير جذري وشامل في البلاد، فاعتمدوا هذا العلم الذي حورب بشراسةٍ من أطراف متعدّدة، أولها النظام السوري وليس آخرها تنظيما النصرة وداعش.
انتشرت منذ سنوات، في شمال سورية وجنوبها، قطع قماش أسود، رسمت عليها زخارف وعبارات إسلامية، واستغلت جملة “لا إله إلا الله” باعتبارها ستنشر الإسلام في بلادٍ مسلمة منذ ألف وخمسمئة عام! وغُضّ الطرف عن اقتباساتٍ قرآنيةٍ كانت لتؤدي تأثيراً أقل تشنجاً، كالدعوة إلى إقامة العدل وتبادل الرحمة والعفو عن الناس، ومع أن منبع هذه الرايات كان واحداً، إلا أنها تناحرت فيما بينها بشراسة، وأمَّن حضورها قبولاً شعبياً لأعلامٍ أخرى أكثر اعتدالاً، كعلم النظام الأحمر وأعلام الأحزاب الكردية.
شكّلت الرايات دعوةً إلى تقسيم البلاد، وتسلط الكيانات الحاكمة على رقع جغرافية، يزداد اتساعها أو ينقص، بحسب ظروف الدعم الدولية، وفرض كل طرف علَمه الخاص، إلى جانب رؤيته السياسية والاجتماعية، على السكان الذين وقعوا ضمن حدود سيطرته، برضاهم أو تحت سطوة الخوف. وجرى قتال بين الفصائل، أو تحالفات مؤقتة، لكن الرايات استمرت في الازدياد، بدل أن تتناقص وتندمج.
في السنة الأخيرة، باتت البلاد ملعباً علنياً لتدخلاتٍ دوليةٍ عسكرية وقحة، وزاد الاتفاق الأخير بين الأميركان والروس حالة الارتهان هذه نصوعاً، حيث ضمنت التعهدات مرور المساعدات للمحاصرين في حلب الشرقية عبر طريق الكاستيلو. ولفرض ذلك، ارتأى الروس رفع علمهم هناك، بدل علم الأمم المتحدة، ما يعني أن نقل السلع والمستلزمات الإنسانية إلى الحلبيين سيتم بمراقبة روسية صرفة، وبالمثل، رَفَعَ جنودٌ أميركان علَم بلادهم فوق مدينة تل أبيض، حين دخلوا مع مدرعاتهم لمراقبة سير الأمور على الحدود السورية التركية. ويُقال إن ذلك تم بمباركة مليشيا رأت أن رفع راية حلفائهم الأميركان فوق تل أبيض ستكون أفضل من رفرفة العلم الأحمر ذي الهلال والنجمة، الممثل لسلطة الأتراك الذين حرّروا المنطقة. لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد رفض الأهالي بشراسة العلم الأميركي لما يحمله من مضامين هيمنة وبطش وإرثاً معادياً للعرب، وأدى الصدّ الشعبي العنيد إلى إزالته فوق المدينة الحدودية.
ليست الرايات العديدة، بحد ذاتها، المشكلة، بقدر ما هي مؤشر يدل على حالة التشتت والارتهان التي يعيشها السوريون منذ سنوات، فالراية رمز للسيادة ووحدة البلاد، ويعبر هذا الفائض في الأعلام عن حالة الوطنية الرخوة لرؤساء الأحزاب والتكتلات التي أدت إلى تكاثر الفضوليين، وتعاظم المطامع الدولية لاستثمار الفوضى الراهنة، وتسجيل حضور عسكري، أعلنته دول وكيانات، من خلال رفع أعلامها داخل الحدود السورية.
العربي الجديد – شفيق عنوري