الجوع…. الكلمة التي تكرهها النفس و تتأزم من ذكرها كما يتأزم البخيل عند ذكر الزكاة، حيث أنّ الجوع لا يملكُ تلك المشاعر التي تُثنيه عن إصابة الصغار و الكبار على حدّ سواء، فالكلُّ معرّض لزيارته المفاجأة، تلك الزيارة التي تترك علامات البؤس و الشقاء على وجوه مستقبليه.
كان الجوع قديماً صاحب سلطة ذاتيةٍ، فلا أحد من البشر كان يسوقه إلى هنا أو هناك، إنّما كانت الأقدار تتقاذفه، حيث أنّ التاريخ يذخر بالكثير من الأمم التي كان الجوع سبباً لموتها واندثار حضاراتها.
و كما نعلم أنَّ النفس البشرية تملكُ نوعاً من الشموخ الذي يأبى إلا و أن يمتطي كلَّ الصعاب، لا بل، و يروضها لصالحه و يستخدمها بما ينفع مآربه، و من بين هذه الصعاب التي تمَّ ترويضها – الجوع –
أصبح الجوع لدى بعض الأمم سلاحاً ذو فاعلية عالية يفوق تلك الأسلحة التقليدية التي تستخدم في المعارك، حيث كان أسلوباً جهنّمياً لإرضاخ الأعداء دون إسالة دماء و لا قرع طبول حربٍ ولا إصدار صرير السيوف، إذ يكفي إطباق حصارعلى المنطقة المستهدفة، و منع الطعام والشراب عنهم، و هكذا سيسقطون منهكين متعبين شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن.
حين تُنزع الأخلاق من قلوب البشر فلا يرغب أحدٌ برؤية ما سيحدث، فكلَّ إنسان بداخله قوة شريرة لا تلبث و أن تخرج حين امتلاك هذه النفس القوة و السلطة، لذا كان سلاح الجوع يرافق دوماً أصحاب السمعة السيئة التي خلّدهم التاريخ في صفحاته السوداء.
بين أيدينا مشابه لما يحويه التاريخ، في بلدة اسمها –مضايا- في سوريا، ترزخ هذه البلدة تحت حصار مطبق منذ ما يزيد عن شهرين من قبل قوات النظام السوريّ و ميليشيات ما يسمّى –حزب الله- اللبناني، فلا ماء و لا غذاء و لا دواء يدخل بلدتهم، في محاولة لإرضاخ هذه البلدة وإجبارها على رفع الرايات البيضاء و كسر إرادتها التي عانى منها أعداؤها.
كانت الإنسانية على موعد مع امتحان صعبٍ عنوانه –مضايا- حيث أنَّ معاناة ساكنها صغاراً و كباراً كانت تستدعي تدخلاً عاجلاً لانقاذ الجميع من الموت جوعاً، مع ذلك كان الصمت سيّد المواقف و التصريحات بشأن هذه البلدة.
أصدرت هذه البلدة ألبومات من الصور و الفيديوهات تلخّص ما يعانيه أهلها في كلّ يوم، كأجساد الأطفال التي يمكن أن تحملها الرياح بعيداً، و شيوخ أصبحت أجسادهم كما لو أنّهم في قبورهم منذ سنين، و نساءٌ جفّتْ صدورهنّ و مآقيهنّ من هذا المُصاب.
رغم كلّ هذا و ذاك، كانت –العين- فقط هي التي تتحرك من حواس الإنسانية، فلا لسانٌ يتكلّم، و لا أذنٌ ترغب بسماع أنّات و آهات الجوعى و المحاصرين.
في بيت من بيوت –مضايا- تعيش أمّ و طفلها الذي مات أباه في المعتقل بسبب الجوع و التعذيب، يسأل هذا الطفل أسئلة كثيرةً تجاوزت عمره كثيراً.
أين أبي ؟
تجيب أمّه : في الجنّة يا ولدي.
هل في الجنة طعام و شراب و حلويات ؟
تجيبه : نعم هناك الكثير.
لمَ لا نذهب إلى أبي؟ أو يأتي هو إلينا يا أمي ؟
كان جواب الأم يلخًص الواقع بمجمله، جواباً يجعلُ كلّ من يسمعه يرتعبُ من لمجرّد التفكير به،
حيث قالت: حتى تبرز عظامك يا صغيري !!!!!
أيهم أبازيد