وصف المحلل الروسي الاستراتيجي “فلاديمير لبيخين” قبل أسابيع، معركة حلب بأنها مماثلة لمعركة “ستالينغراد” التي غيرت مصير الحرب العالمية الثانية، وجسدت الصمود الروسي فيها وبداية انهيار الجيش الألماني، وهزيمته في نهاية المطاف.
ولا أعتقد أن كلامه جاء من قبيل المبالغة، بل على العكس فالمسار كان يتجه نحو حسم “المعركة” لصالح الأقوى على الأرض، ومن ثم تغيير الاتجاه السياسي كنتيجة طبيعية بحسب نظرية “الغالب أو المنتصر”.
لا يمكن أن نخفي أيضاً بأن كل المؤشرات كانت توحي بالحسم لصالح نظام الأسد وفق ميزان القوة التي يتملكها، وليس من قبيل المبالغة ما كان يشاع بأن “الثورة على المحك”.
الثورة على المحك… قراءة المشهد من خلال آراء الشارع التي استقت تحليلها السابق من معطيات من ضمنها ما بدا واضحاً للمراقب بأن إطباق النظام والمليشيات الأجنبية المساندة له حصارها على الأحياء الشرقية لـ”حلب القديمة” هو مقدمة لهزيمةٍ على المدى المنظور.
خلال تلك الأيام لم يكن تحت المجهر إلا “حلب” التي بقيت التحليلات تؤكد أن سقوطها سوف يكسر عامود الثورة، والتوقعات بأن ذلك سوف ينعكس حتماً على الثوار معنوياً على أقل تقدير وعلى مساحة واسعة من أرض المعارك في سوريا.
وعلى الرغم من التدخل الروسي بطائراته الحديثة، ودخول النخبة من المقاتلين الإيرانيين، إضافة إلى المرتزقة الأجانب التي قاتلت إلى جانب الأسد، فقد تغيرت الخريطة لصالح الثوار، الذين نجحوا في قلب المعادلة ليس فقط لصالحهم بل تحولت “ملحمة حلب” إلى انتصارٍ ومنعطفٍ مصيري في تاريخ الثورة، فهي إضافة لكونها هزيمة لقوات النظام ومن خلفه حلفائه فقد أعادت فتح ملف الشعب السوري الذي تعامى عنه المجتمع الدولي الساكت عن جرائم الأسد وروسيا بحق المدنيين.
عسكرياً، يمكن القول بأن ملحمة حلب باتت نموذجاً للمعارك العسكرية التي تضيف إلى الشعوب قوة جديدة إضافة لانتصار إرادتهم على قوى الجبروت والظلم، فقد أثبتت تفوق “إرادة الشعب” على البراميل المتفجرة بل وعلى أعتى الأسلحة.
تاريخياً، ملحمة حلب أكدت أن العالم أجمعَ على الوقوف في وجه مقاتلين وقف خلفهم شعبٌ مظلوم انتظر من العالم أن يوقف مشهد الموت لكنه آثر الانحياز إلى الباطل والاكتفاء بالشجب والتنديد، فغيرت بندقية بضعة آلاف من المقاتلين الخريطة العسكرية وكشفت “عهر المجتمع الدولي” أمام التاريخ.
يعنينا كثيراً أن نفهم خلفيات هذا الانتصار الذي أحرزه الثوار، ولعل صحيفة الـ”فايننشال تايمز” ألمحت في تقريرٍ لها إلى أن الهجوم ضد قوات الأسد في حلب ربما تم بمساعدة خارجية، لكن مسؤولاً غربياً وبحسب التقرير ذاته تحدث بأن: ((مشكلة الثوار لم تكن أبداً قلة الأسلحة، وهذا الأمر خطط له داخلياً، ونجح ليس بسبب الدعم الخارجي، ولكن لأن جبهة فتح الشام والجماعات الجهادية الأخرى منضبطة بشكل لا يصدق، والكثير من الرجال على استعداد لتفجير أنفسهم على الجبهة)).
ولعل في التقرير ما يحتاج أيضاً إلى تأمل وهو ما أورده ذات الدبلوماسي الذي أكد بأن: “الأميركيين كانوا بالطبع يعلمون ما يجري، وتجاهلوه لممارسة بعض الضغط على روسيا وإيران” في إشارةٍ إلى غض الطرف عن مشاركة جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً) في الهجوم.
لقد كان من الواضح أن موقع حلب كمدينة كبرى وكأحد أكبر معقل حضري للثوار، دوراً يضاف إلى الرغبة الأمريكية في عدم حسم الصراع بينها وبين روسيا بشكل جاد، بل إنها أرادت ضمان موطئ قدمٍ لها في حلب عبر ضمان إبقاء المعارضة.
الثورة خرجت من المحك إذاً، أيضاً هذا ليس بالأمر الصحيح تماماً، فما تزال قلوب المدنيين الذين عانوا الظلم وناصروا الثورة تطمح بلهفةٍ وشوق إلى “معارضةٍ موحدة” و”فصيلٍ عسكري يقاتل تحت رايةٍ واحدة” تمثل تطلعاته.
نعم، مرغ الثوار أنوف مرتزقة إيران والمليشيات التي ساندت الأسد بالتراب وحطموا الطوق الذي فرضته قوات الأسد على حلب، والرسالة باتت واضحة للعالم اليوم بأن هؤلاء الثوار وبضعف إمكاناتهم قادرين على فرض شروطهم وأن إرادة الشعوب المظلومة قادرة على أن تحرك مسار المعارك، ومن استطاع أن يقف بوجه قوىً اجتمعت على حربه قادرة بالتأكيد أن تذهب بعيدًا في معركتها.
نتائج ملحمة حلب سوف تغير مستقبل الصراع على سوريا، والمنطقة برمتها، وما انتصار الثوار في حلب إلا مقدمة لانهيار التحالفات والتفاهمات جزئياً أو كلياً، والأيام حبلى بالبشائر.
أما إن سقطت منطقة تحت ضربات الروس الجوية، فإن ما سبق الكلام عنه يكفي ثوار “حلب” وأهل الشام جميعاً حتى يدركوا أن معركة السوريين سوف تطول كراً وفراً ريثما يقطع رأس الأفعى.
وإن ما بعد انتصار حلب يؤكد أن الثورة في مسار مختلف.
الأيام
