كثيراً ما نسمع عن “حياة البرزخ ” لكننا لا نعرف ماهيتها ولا كيف سنعيشها، الشعور ذاته هو الذي ينتابنا عند المرور عبر حواجز النظام وشبيحته، هل سنعيش أم سنموت؟ هل ستخرج علينا الأفاعي من القبور كما يخرج علينا الشبيحة من خلف الحواجز؟، البعض منّا قد مرّ عبر تلك الحواجز وخرج سالماً، والبعض الآخر ربما توقف عندها واختفى.
غفران؛ فتاةٌ من الريف الدمشقي روت معاناتها عبر تلك الحواجز حيث تقول: “أبي وأمي استشهدا في القصف وضاعت أشلائهم تحت الأنقاض، وأختي الكبيرة لجأت وزوجها وأطفالها إلى لبنان، أما أختي الوسطى فقررت السفر إلى تركيا لتعيش عند أقارب لنا، أما أخي الكبير فقد استشهد في إحدى مدن الجنوب الدمشقي في اشتباك مع قوات الأسد بعد إصابته بطلقٍ ناري؛ وتوفي نتيجةً لعدم توفر العناية الطبية اللازمة لعلاجه.
الفرج قريب
تلك المأساة التي روتها غفران لم تكن إلا البداية للمأساة الأكبر التي كانت بانتظارها؛ تقول:أعيش مع خالتي وبناتها في إحدى مدن ريف دمشق الغربي منزلنا عبارة عن جدران وسقف – لا شبابيك له ولا أبواب، لكنه ورغم كل المآسي التي مرت بنا؛ بقي مليئا بالحب والضحك، كانت خالتي وهي إمرأة كبيرة بالعمر وأم لشهيد، حنونة جداً وتحبني كثيراً، في كلّ صباح وعندما تستيقظ كانت تقول لي: “تعالي أبوسك ،إنتي من ريحة أختي”؛ خالتي لديها خمس بنات، ولكل واحدة منهن ألم مختلف، منهن زوجة شهيد، وزوجة معتقل، وأخرى زوجةٌ مفقود، غير أنّ جميعهنّ مفعمات بالحياة، ضحوكات دائماً يرددن كلمة “الفرج قريب “.
حاجز الموت
تواصل غفران سرد قصتها لتصل بنا إلى الحاجز الذي تتركز قصتها حوله، وتقول: “كنت أكثر من الذهاب إلى دمشق، واعتدت المرور على الحواجز ولكن في ذلك اليوم خرجت منذ الساعة 7 صباحاً، حتى أستطيع العودة مبكراً إلى المنزل، صعدت إلى “السرفيس” وصلنا إلى ذلك الحاجز البشع، ليطلب العسكري البطاقات الشخصية”: هنا تبدأ القصة بعد أن أعاد العسكري البطاقات الشخصية للجميع مستثنياً منها غفران، تروي غفران الحديث الذي دار بينها وبين ذلك العسكري على الحاجز: ”
فتقول :أين هويتي
العسكري: تعالي إلى الجانب الآخر من الحاجز لتأخذيها.
هنا أحست غفران أنّ قلبها سيخرج من صدرها فقد تسارع نبضها نتيجة التوتر والخوف اللذين شعرت بهما، أحست أنّ النار خرجت من أذنيها، سمعت صوت ينادي “غفران انزلي” كان العسكري ينظر إليّها نظرات غريبة أخذها إلى غرفة يوجد فيها ضابطين أحدهما برتبة ملازم والثاني برتبة ملازم أول قال لها الأخير: “لا تتحركي وعيونك بالأرض”، كان يحمل ورقة تحوي أسماء كثيرة، ربما هي ورقةٌ لأسماء المطلوبين، حاولت جاهدةً أن تخفي توترها، غير أنّ ذلك الملازم الذي كان وجهه يقطر سُمّْاً كان يزيدها خوفاً وتوتراً مع كل نظرة يرمقها بها.
ساعات الرعب
تواصل غفران ما جرى على ذلك الحاجز، تقول غفران: “صاح الملازم بصوت مرعب “وينو جوزك” كان جوابي بصوت مرتجف “لست متزوجة”، ليفاجئني بسؤال آخر، إلى أين تذهبي كلّ يوم؟ أجبته بخوفٍ: “إنني أذهب إلى دمشق باستمرار لأنني أدرس هناك، بإحدى المعاهد الخاصة”، غير أنّ الحقيقة أنني اذهب لزيارة عمي المسكين الذي أتعبه فراق أبنائه الأربعة، ولا يعرف عنهم شيئاً منذ أكثر من سنتين.
أمر الملازم أحد الجنود بأن يفتشني ويفتش الأغراض التي أحملها، دقائق التفتيش مرّت وأحسستُ أنّ الوقت توقف هنا، خُيِّلَ لي الفرع الأمني، وأنني مقيدة مرمية في زنزانة مظلمة، سمعت في تلك اللحظات أصوات السجانين، وآهات المعتقلين، تذكرت صديقتي التي تقبع في سجون الظلام منذ أكثر من سبعة أشهر، لاحت لي صورة خطيبي الذي توفي تحت التعذيب وكأنه يقول لي أنا بانتظارك، أرعبني صوت الملازم وهو يصرخ بالجنود (خذوها)، صرخت بهم، إلى أين تأخذوني، لم أفعل شيئا أرجوكم، وضعوني في السيارة لم أكن وحدي ، كنت الفتاة الثالثة وجميعنا كنا نبكي؛ لم نستطع أن نتحدث مع بعضنا.
رحلة البرزخ
داخل تلك السيارة التي لونت الدماء جدرانها قام العسكري بربط أعيننا بقماشات سوداء، تقول غفران: “سمعت صوت محرك السيارة يعمل ومن هنا بدأت رحلة البرزخ، عندما توقف المحرك، أنزلونا من السيارة وصعدنا درجاً أقدره بأنه طابقين فوق الأرض، نزعو القماش عن أعيننا، لم يكن فرع الأمن ولكنه كان شقة فيها 5 نساء غيرنا، كنّ بحالة يرثى لها، جميعهن تعرضن للاغتصاب، بعد وصلونا بساعة جاء الملازم (صاحب الوجه الذي يقطر سُمّاً)، بدأ يشتم ويتكلم ألفاظ قذرة، أخذ الفتاة التي كانت على يميني وأدخلها إلى إحدى الغرف، سمعنا صراخها وهي تتوسل، كنتُ أقول في نفسي (مسكينة هالبنت الحمدالله ما أخذني أنا)، كان يوماً طويلاً شاقاً، لكن ليلته كانت الأسوأ على الإطلاق، شيطان دخل الغرفة، ملامحه لا تشبه البشر، لن أنساه أبداً، شتمني وضربني.. اغتصبني طوال تلك الليلة.
توقفت غفران عن الحديث، غرقت في دموعها وهي تستمر برواية تفاصيل ماجرى، تابعت: “لا أريد أن أتحدث بتفاصيل تتعبني، فبعد اغتصابي من قبل ثلاثة جنود وضابط غبت عن الوعي، ولم استيقظ إلا على صوت أم أحمد إحدى النساء الموجودات في تلك الشقة العفنة، كل واحدة منا أخذت نصيبها من إجرام الوحوش”.
بقينا أسبوعاً في تلك الشقة القذرة وكان يتناوب علينا جنود الحاجز والضباط وأصدقائهم من الشبيحة، غير أني خرجت من هناك بعملية تبادل بين الجيش الحر والشبيحة، خرجت مع أربع نساء أخريات نِلنّ نصيبهن أيضاً من أفعال المجرمين، كنت محظوظة جداً أنني خرجت من تلك الشقة التي تشبه القبور بعذابها.
آلاء محمد -موقع اتحاد الديمقراطيين السوريين