يصنف رئيس مركز التكنولوجيا السياسية في العاصمة الروسيّة موسكو، بوريس ماكارينكو، الحرب الإعلامية بين روسيا والغرب على أنها مواجهة تقع ضمن مجال سياسي بامتياز، إذ لا يوجد فيها صدام عسكري مباشر، بل يستخدم الطرفان الضغوط غير المباشرة عبر أساليب إعلامية وإلكترونية لتحقيق أهدافهم السياسية.
وتتسم هذه المواجهة بأنها هجينة بلا صدام مباشر، كما يضيف ماكارينكو في تصريحاته لـ”العربي الجديد”، إذ يتم الخلط فيها بين الضغط السياسي والمواجهة الإلكترونية والإعلامية من دون صدام عسكري مباشر، شأنها في ذلك مثل ما جرى وقت الحرب الباردة في الحقبة السوفييتية”، (شهدت هذه الفترة سباق تسلح لم يسفر عن مواجهات مباشرة بين القطبين الرئيسيين في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين)، “وخلال تلك الفترة لم تكن هناك قوات إلكترونية بالمعنى المصطلح عليه في الوقت الحالي، في كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة”، وفق ما أكده الخبير الروسي في مجلة “ترسانة الوطن” العسكرية الروسية، أليكسي ليونكوف الذي استدرك قائلا في تصريحات لـ”العربي الجديد”:”كانت هناك وحدات متخصصة تابعة لـ”سي أي إيه” و”كي جي بي” تتولى شؤون الاستخبارات المضادة وتأمين الأسرار، لكن لا توجد قوات إلكترونية بالمعنى الحديث المتعارف عليه”.
اتهامات صريحة وغياب الأدلة المعلنة
بالرغم من غياب أدلة معلنة تُذكر على ضلوع هاكرز روس في الهجمات على الخوادم الأميركية (سيرفرز)، إلا أن مجلسي الكونغرس الأميركي (النواب والشيوخ) يتلقيان معلومات سرية من الاستخبارات الأميركية بهذا الشأن وفق ما يعتقده الخبير ماكارينكو، والذي أضاف في هذا السياق: “من وجهة النظر القانونية البحتة، لا توجد أدلة، وهذا ما يركز عليه المسؤولون الروس في تصريحاتهم، لكننا نعلم أن الاستخبارات الأميركية تسلم الكونغرس حقائق ما”، واعتمدت الحكومة الأميركية على هذه الحقائق لدى توجيه واشنطن اتهامات صريحة لموسكو بشن هجمات إلكترونية على مؤسسات حكومية أميركية ومحاولة التأثير على نتائج الانتخابات لدعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب، في 8 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2016، ضد منافسته المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وهو ما رد عليه المتحدث باسم الكريملن بأنه “هراء لا أساس له”.
ويقلل الخبير العسكري أليكسي ليونكوف من واقعية الاتهامات الموجهة إلى روسيا باختراق الخوادم الأميركية، قائلا: “من وجهة نظري، فإن توجيه مثل هذه الاتهامات يتطلب تقديم أدلة والتفكير بدقة حول المصلحة من ذلك؟” ويضيف موضحا: “ليس من مصلحة روسيا أن تهاجم أحدا، إذ يتم توجيه هذه الاتهامات إليها وسط موجة معاداة روسيا التي انطلقت منذ بضع سنوات”.
لكن من يقف وراء الهجمات الإلكترونية؟ في رأي المحلل العسكري ليونكوف فإن مجموعات “هاكرز” كثيرة في كافة أنحاء العالم تقوم باختراق الخوادم مقابل أجر، ويصعب ضبطها، لأنها تستخدم بيانات تسجيل كاذبة وتشن هجمات من عناوين مختلفة في دول كثيرة، وتابع قائلا “روسيا أيضا تواجه هجمات إلكترونية من عناوين مختلفة بانتظام”.
من بين تلك الهجمات، ما أعلن عنه “سبيربنك”، أكبر مصرف في روسيا، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ كشف البنك عن تعرضه لهجوم إلكتروني مكثف من نوع “ديدوس” استمر لبضع ساعات، ما أسفر عن تباطؤ تقديم الخدمات “أونلاين” لفترات تراوحت بين بضع ثوان ودقيقة واحدة.
مهام القوات الإلكترونية
يلخص رئيس مركز “زيكوريون” للاستشارات الأمنية وتحليل المعلومات، فلاديمير أوليانوف، مهام القوات الإلكترونية في ثلاث نقاط رئيسية، على رأسها التجسس والهجمات الإلكترونية والحرب الإعلامية.
ويقول أوليفانوف في حديثه لـ”العربي الجديد”: “يهدف التجسس إلى الحصول على معلومات سرية والتنصت على شخصيات ومؤسسات، بينما تقتضي الهجمات الإلكترونية تأثيرا فعليا على نظم المعلومات وشبكات الاتصالات وعناصر للبنية التحتية الهندسية، وأيضا الحصول على معلومات حول نظم المعلومات المستخدمة ووسائل حمايتها”.
وحول ماهية الحروب الإلكترونية، أجاب أوليفانوف: “إنها مفهوم واسع وتشمل مختلف وسائل التأثير على أمزجة سكان البلاد وسلوكهم، ومسرحها الرئيسي وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي”. يتابع: “يصعب تقييم فاعلية القوات الإلكترونية بشكل متزن قبل الحصول على نتائج نشاطها. هذا الاتجاه جديد وواعد، وهناك دول كثيرة تستثمر في الأمن الإلكتروني بقوة رغم أنه لن يتسنى تقييم فاعلية هذه القوات إلا مستقبلاً”.
أقوى الجيوش الإلكترونية
نشر مركز “زيكوريون” في يناير/كانون الثاني الماضي دراسة أظهرت أن الدول الأولى عالمياً من حيث مستوى تطور القوات الإلكترونية ذات أهداف عسكرية واستخباراتية هي الولايات المتحدة والصين وبريطانيا وكوريا الجنوبية.
وبحسب الدراسة فإن الولايات المتحدة لديها أقوى جيش إلكتروني يضم 9 آلاف فرد بميزانية تصل إلى 7 مليارات دولار سنويا، وتليها الصين (20 ألف فرد بميزانية 1.5 مليار دولار)، ثم بريطانيا (2000 فرد بميزانية 450 مليون دولار) وكوريا الجنوبية (4 آلاف فرد بميزانية 200 مليون دولار).
ومن أجل إعداد الدراسة اطلع المركز على الميزانيات العسكرية المعلنة للدول ووثائق أساسية وهيكل الوحدات المعنية بالأمن الإلكتروني والمؤسسات التي على صلة بها واستراتيجيات وعقائد الأمن الإلكتروني، بحسب ما أوضحه فلاديمير أوليانوف قائلاً: “مثل هذه الوثائق متاحة في الكثير من الدول وهناك وجود رسمي لوحدات الأمن الإلكتروني”، ويضيف: “اطلعنا أيضا على بيانات المنظمات الدولية المعنية بشؤون الأسلحة وتعليقات المسؤولين وبرامج التعاون بين الدول والجهات”.
رغم أن الدراسة لم تشمل روسيا، إلا أن صحيفة “كوميرسانت” الروسية ذكرت بالتزامن مع صدورها أن عدد أفراد القوات الإلكترونية الروسية يبلغ حوالي ألف عنصر بميزانية سنوية نحو 300 مليون دولار، ويؤكد رئيس لجنة الدفاع والأمن بمجلس الاتحاد الروسي، فيكتور أوزيروف، وجود مثل هذه القوات، مشيرا إلى أن “أي دولة تؤمّن في وقت السلام مواردها المعلوماتية، وفي وقت الحرب تستعد لتدمير منظومة التحكم لقوات الدولة العدو التي قد ينشب نزاع معها”
تأكيد وزارة الدفاع الروسية في فبراير/شباط الماضي أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، عن إنشاء قوات معلوماتية ضمن الجيش الروسي، مشيرا إلى أن الدعاية يجب أن تكون ذكية وفعالة.
لكن ماذا عن مهام تلك القوات، يجيب الخبير بمجلة “ترسانة الوطن” ليونكوف، عن السؤال السابق، محدداً مهام القوات المعلوماتية في تأمين الإنترنت الحربي ومنع التسريبات الإعلامية والرد على الأخبار المفبركة وإعداد صحافيين عسكريين متخصصين لاستبعاد احتمال نشر مقالات تتضمن معلومات سرية، بالإضافة إلى الرد على الأخبار المفبركة.
وتابع ليونكوف تصريحاته لـ”العربي الجديد” قائلا: “انتقلت أغلبية وحدات القوات الروسية إلى نظم تحكم آلية، وتم إنشاء مركز موحد لحماية المعلومات، وهناك إنترنت حربي يحتاج أيضا إلى الحماية، ومن مهام الوحدات الإلكترونية أيضا منع وقوع تسريبات”.
ثغرات سهلة
في الوقت الذي قد يبدو فيه شن هجمات إلكترونية على خوادم مؤسسات من مستوى الحزب الديمقراطي الأميركي أمراً شبه مستحيل من الوهلة الأولى، يوضح مسؤول التنمية بشركة “بورصة تيليكوم” المتخصصة في البنية التحتية للاتصالات، فاسيلي بيمينوف، أن الأمر ليس بهذه الصعوبة، إذ إن الأحزاب السياسية ليست وزارات دفاع، بل من السهل من الناحية الفنية إيجاد ثغرات في نظمها المعلوماتية.
ويقول بيمينوف في حديث لـ”العربي الجديد”: “تقدر تكلفة الحماية المحترفة الكاملة لنظم المعلومات للمؤسسات بعشرات الملايين من الدولارات، وهو عبء لا تستطيع تحمله إلا وزارات دفاع أو شركات عملاقة. أما الأحزاب، فلا تتوفر لديها مثل هذه المبالغ الطائلة حتى تستثمرها في نظم الحماية الإلكترونية، كما أن هناك أشخاصا يأتون إلى مقار الحزب بأجهزة حاسوب شخصية، وهذه ثغرة قد يستخدمها الهاكرز، ناهيك عن احتمالات الإهمال في مجال التأمين بمؤسسات مثل الأحزاب”.
وفي هذا السياق، يشير الخبير الروسي في مجال تكنولوجيا المعلومات إلى أن “اختراق خوادم وزارات الدفاع مثلا، أمر شبه مستحيل وأن حالات تسرب المعلومات من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تعدّ فردية”.
ويضرب مثلاً على كيفية تصرف الهاكرز لتعطيل الخوادم، قائلا: “يستخدم الهاكرز شبكة من نوع “تور”، وهي عبارة عن منظومة خوادم “بروكسي” لإقامة اتصالات من عناوين مجهولة محصنة من التنصت وتتيح إقامة اتصالات خفية لشن هجمات “ديدوس” عن طريق إرسال كمية كبيرة من طلبات كاذبة يعجز الموقع عن التعامل معها ويتعطل”.
لكن لحسن الحظ، تتطور نظم الحماية أسرع من الهاكرز، كما يقول يمينوف، مؤكدا ضرورة الاسترشاد بأولويات المؤسسة، واختيار أسلوب الحماية الأمثل، في ظل تنامي خطر الهجمات الإلكترونية خلال الأعوام المقبلة وفق ما يؤكده خبراء الأمن المعلوماتي.
العربي الجديد