يرتاد فراس وأخته، وهما طفلان من مدينة حلب، دورةَ عزف وغناء ترعاها إحدى الجمعيات السورية في غازي عنتاب المعنية بأنشطة الأطفال وتنميتهم. البرنامج عبارة عن تعريف الأطفال على أساسيات العزف بشكل نظري، وكورال غنائي، يتعلمون فيه الأغاني التراثية السورية والمرتبطة بالثورة، فضلاً عن بعض الأناشيد التركية.
الجمعية تقدم للأطفال السوريين بالإضافة لهذه الدورة، دورات تعليمية وترفيهية أخرى، كالتمثيل والرسم والأعمال اليدوية، وغيرها، وتنظم كل ستة أشهر عرضاً يدعى إليه الناشطون وأهالي الأطفال، بالإضافة للإعلام والمهتمين بشؤون الطفل.
فكرة الجمعية/ المنظمة في تنمية مهارات الأطفال السوريين وصقل مواهبهم، وجمعهم في مكان واحد يتبادلون خلاله الثقافة السورية هي بحد ذاتها فكرة سامية ونبيلة، ولكن المشكلة تكمن في آليات التنفيذ، إذ تفتقد برامج هذه الجمعيات إلى هوامش حرية حقيقية تحرض الأطفال على التفكير الإبداعي، ومن ثم تقديم عروض ونتائج مميزة، فبمجرد حضوركَ عرض واحد يتضح حجم الحدود المرسومة، والأطر التوجيهية التي تعمل المؤسسة تحت غطائها.
في هذا المعنى قال خبير تربوي (فضل عدم الكشف عن اسمه) لـ “بروكار برس”: غالباً ما يتم إحاطة هذه البرامج بهالة من التوجيهات التربوية الخاطئة، بعضها يستند إلى أفكار دينية مغلوطة، وآخر مرتبط بحالة تسلطية قمعية لم يتمكن عدد لا بأس به من السوريين من التخلص منها، وهي رواسب من الاستبداد الذي خلفه النظام في نفوس الموجهين والتربويين وخبراء علم النفس والاجتماع، هؤلاء من الصعب عليهم تغيير الطريقة التي اعتادوا عليها، لذا يمارسوها على الأطفال، ويؤطرونهم، ويضعون لهم حدوداً في كل أنشطتهم، لذا نرى النتائج متواضعة، ولا ترقى إلى حجم الجهد المبذول.
وأضاف “يغيب عن هذه الأنشطة الرؤيا التي تستند إلى المنهجية العلمية. فهم المرحلة العمرية لكل فئة من الأطفال ومن ثم رفدها بما يناسبها. على سبيل المثال، يُطلب أحياناً من الأطفال إحياء حفلات أو فعاليات مدنية تقام في المدينة، فيغني الأطفال أغانٍ تخص الكبار (القدود الحلبية)، وهو أمر غير محبذ، إذ لا ينبغي استخدام الأطفال لتغطية متطلبات/ حاجات أخرى، فضلاً عن تجريد الأطفال من عفويتهم، إذ يُطلب منهم أثناء التأدية التزام الانضباط، وتمارس عليهم أساليب الصرامة ذاتها التي كانت دارجة لدى النظام، لذا يتصرفون كالروبوتات، بعيداً عن إشهارهم لحس الطفولة وذكاء الأطفال الفطري.
من يقيم برامج تنشئة الأيتام
تنشط في تركيا العديد من الجمعيات التي تعنى بالأطفال يتامى الأب، وتتكفل هذه الجمعيات بإعالة الأطفال مع أمهاتهم، وتأمين تأهيل مهني للأم، إذا كانت بسن العمل.
ويقدر عدد جمعيات الأطفال السوريين في عموم تركيا بنحو 100 جمعية، موزعة بين جمعيات رعاية الأطفال اليتامى، وجمعيات تنموية وترفيهية، بالإضافة للجمعيات التي تعنى بالدعم النفسي والاجتماعي، ومعظم مرتادي هذه الجمعيات من الأطفال السوريين تتراوح أعمارهم بين 5 و 9 سنة، وتجاوز عددهم في تركيا النصف مليون طفلاً وفق إحصائيات أخيرة لدائرة الهجرة التركية.
وغالباً ما تتبنى هذه الجمعيات خطاً تربوياً عقائدياً يتحكم به المال الداعم، فيصبح منهج التربية الإسلامية المرجع الرئيس للأطفال ويطغى على حساب العلم، ناهيك عن أن المرشدين والتربويين الذين يشرفون على الأطفال، هم بحاجة إلى تعليم، غير مؤهلين، ويحملون أفكاراً ومفاهيم خاطئة.
في هذا السياق يقول الخبير التربوي “إن حاجات الأطفال اليتامى من النواحي التربوية والعاطفية مضاعفة، لذا ينبغي اختيار أناس كفؤين لرعايتهم. الأمر لا يقتصر على إجراء بعض الأنشطة المسلية المجردة من الأهداف، أو توجيهات يقدمها المشرفون، ويحولونها دستوراً في بيئة اليتامى دون إعطائهم شرحاً منطقياً وافياً ومقنعاً حولها”.
حاولت “بروكار برس” فهم ماهية البرامج التي تقدمها الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني للأطفال اليتامى وغير اليتامى، من يختار المواضيع، ومن يحدد سقفها، ولكنها لم تصل إلى إجابات شافية في هذا الشأن، كون معظم العاملين في هذه الجمعيات والذين تمكنت بروكار برس من سؤالهم، يظنون أن الإدارة صاحبة الصلاحيات المطلقةوهي التي تختار وتنفذ.
ولكن الخبير التربوي الذي حاورناه كان له رأياً مخالفاً “إذ يعتبر أن هذه الجمعيات/ المنظمات لا تعمل وفقاً لإرادتها وحسب، إنما يملي عليها الداعم طرق التنفيذ، والأهم الموضوعات التي ينبغي التركيز عليها، أو الواجب إهمالها، لذا لاتصل هذه المجتمعات إلى نتائج إيجابية ملموسة على مستوى تطوير التفكير والتحليل لدى الأطفال، والدفع بهم نحو الإبداع والابتكار”.
مشيراً أن الدعم الصديق لتركيا من المغتربين ورجال الأعمال المقتدرين السوريين، يركز في أجندته على تنشئة الطفل بطريقة إسلامية تقليدية، مع وضع حدود لكل تساؤلاته الفكرية، والهدف من ذلك ضمان عدم ابتعاده عن الخط المتبع اجتماعياً ومن ثم سياسياً، أما المنظمات تدعمها أوروبا ومع تضاؤلها فإن الحدود التي تضعها للطفل يكون لها أهداف أخرى، وهي الابتعاد عن حالة التنوير الحقيقية التي من الممكن أن تخلق وعي أصيل لدى السوريين، وتغييب القضايا والمشكلات المهمة والتركيز على مواضيع ثانوية بهدف كبح جماح الأطفال وتحويلهم إلى منفذين عوضاً عن أن يكونوا خلاقين وأصحاب فكرة. لذا نرى أن هذا السيناريو يتكرر في معظم المنظمات المدعومة أوروبياً، ليس فقط المهتمة بالأطفال بل المعنية بالمرأة والطلاب وكل شرائح المجتمع.
تؤكد (أم فراس) أن أولادها ازداد خجلهم وانطووا على أنفسهم منذ أن بدأوا دورات صقل المواهب، فضلاً عن أنهم لم يتعلموا مهارات جديدة، بل كان النشاط بمجمله أقرب للتسلية والترويض، لكنها ترى أيضاً أن مثل هذه الأنشطة هي حاجة للسوريين في تركيا لأن ابتعاد الأطفال بحكم التعليم الخالص باللغة التركية عن كل ما يخص سوريا والثقافة السورية يعتبر خطيراً، لذا ينبغي إحداث فعاليات سورية للأطفال واعية وغير موجهة.
يُعتبر فراس وأخته من المحظوظين إذ أن أهلهم يعرفون طبيعة هذه النشاطات ومحدوديتها، لذا يحاولون إغناءهم بمعلومات ونشاطات وأفكار إضافية، تقوي شخصيتهم وتحفزهم على التفكير والنقد والتمحيص.
نقلا عن بروكار برس