القدس العربي _ عز الدين بوركة
عتبة لعوالم المُسوخ:
يقبع التشكيلي المغربي كريم عطار في محترفه الهادئ مطمئنا وهاربا من صخب التجمعات ودردشاتها، نادرا ما تجده خارج مرسمه، إذ يبقى لأيام بيضاء أحيانا غارقا في حوارية جمالية مع كائناته الممسوخة، لا يفارقها.. يعدّلها أو يشكلها أو يبدعها في عوالم متعددة ومختلفة.
هدوء شخصيته يشابه هدوء شخوصه، التي إن أردنا لها تصنيفا فنيا فهي تنتمي لما يمكن أن نسميه بالتيار السيمولاكري، فهو، واحد من الفنانين الذين ينتمون لهذا التيار الجمالي الذي ظهر في سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم، الذين جعلوا من مؤلف جون بودريار «السيمولاكر والمحاكاة» مرجعا لهم.. آخذين بتحليل هذا الأخير كون الواقع ما هو إلا مجرد صور مشوهة ومشفرة، إنه واقع سيمولاكري، وبالتالي فهم لا يعبرون عنه إلا بصورهذا الواقع.
أعمال كريم عطار الصباغية هي صور لكائنات تعج بالحياة وضاجة بالروح. تتخذ مشروعية وجودها من ذاتها، فمشروعيتها في الوجود لا تستجدي الاعتراف بها، فهي موجودة في عالمها الخاص، هذا الأخير الذي يأتي باعتباره مؤطرا ومشهديا، أي أن الفنان يضعها في مشاهد نفسية وفيزيولوجية بارزة. فتلك الشخوص غاصة في حالات نفسية متعددة لكنها تمتلك وعيا كاملا بوجودها، فهي كائنات رخوة راضية بشكل وجودها ومتصالحة مع ذواتها، ولعلها ما تزال لم تخرج من حالة الهيولى بعد، كما تبدو من النظرة الأولى.
شخوص كريم عطار تتمتع بالوجود والحياة، إنها تحيطنا ولم تأت من أي عالم ورائي، تتقاسم معنا الهواء والماء، إلا أنها تحيا في عالمها لتحاكمنا، باعتبارها انعكاسا لنا.
اللعب بالورق:
لا يسع المتلقي أمام تلك الكائنات إلا أن يسائل نفسه، هل هي كائنات من عالم آخر؟ أهي حية؟ أم إنها تشبهنا؟ أم لعلها صور لنا في حقيقتنا المثالية؟ الأكيد أن سيمولاكر كريم عطار لا يرتبط بأي رابط بسيمولاكر أفلاطون، الذي يعد تشويها لعالم المثل. عالم الماوراء. إذ أن شخوص هذا الفنان المتمرد هي شخوص تتمتع بالوجود والحياة، إنها تحيطنا ولم تأت من أي عالم ورائي، بل تكاد تكون جزءا من حياتنا اليومية، تتقاسم معنا الهواء والماء، إلا أنها تحيا في عالمها لتحاكمنا، باعتبارها انعكاسا لنا. إذ أنها تعيش في عالم من الرموز المستقاة من عالمنا. يضع عطار شخوصه في إطار مليء بالعلامات التي يلتقطها من الواقع المغربي المحض، حيث نجدها في أحايين كثيرة محاطة بعلامات مستوحاة من أوراق اللعب، هذه الأخيرة التي ترتبط بتأويلات متعددة من قراءة المستقبل والاطلاع على الغيب، وإزالة السحر والعين وجلب الحظ، وحتى اللعب واللهو. بالتالي فهي لم تأت من عالم أعلى وفوقاني، بل جاءت من عالمنا واتخذت لنفسها القماش والصباغة والمادة لتظهر وتكشف عن نفسه، أو كما يقول الفنان فـ»هذه الكائنات هي بين البين، ليست بشرا وليست حيوانا ولا حتى وحوشا، إنها «مسوخ» مشروعية وجودها في الحالات هذه».
يعتمد كريم عطار في اشتغاله الاستتيقي على عناصر من الورق المعاد تدويره، الذي يصنعه الفنان عينه في مختبره /ورشته، ورق سميك ومختلف الملمس يضع عليه صور شخوصه، كأنه يصنع لها بدنا محسوسا خشنا تارة وأملس تارة أخرى. شخوصه التي تهيم في فضاء من الفراغ الذي يعبر عنه اللون الأسود في العموم أو اللون الأبيض. فالفراغ في أعمال هذا الفنان يحتل حيزا مهما. إنه ليس فراغا باعتباره عدما وخواء، بل إنه بعد بصري يضج بالمادة، أي أنه امتلاء، أي حيز وجودي لكائنات أخرى غير مرئية، تنتظر وقتها للبروز. فالفنان لا يملأ لوحاته بالصباغة من أجل الزينة أو الزخرفة، بل إنه يدرك أهمية الفراغ في إحداث ما نسميه بـ«عملية التخييل البصري». إذ أن الفنان لا يكشف عما يريد قوله وتصويره بالشكل الكامل، ما يجعل من المتلقي طرفا فعالا في العملية الإبداعية، كما التأويل. ولا مجال للصدفة في أعمال هذا الفنان، إذ لا نعثر على تدفقات لونية أو تداخلات عشوائية، فالعمل لديه هو وليد الدقة والتصور المسبق، أي أنه صنيع التفكير والمفكر فيه.
يحاول هذا عطار أن يطرح أسئلة إنسانية كبرى متعلقة بالإنسان المعاصر، وما تعلق به من حروب ودمار وصراعات على كل المستويات من فضاء وأرض… إذ بات الإنسان ظاهرة صُوَرية معرضا إلى الصورة التي تؤطره وتوجهه وتستغله، بل تأمره بشكل واع ولاواع. فبات الإنسان إذن «مسخا إعلاميا» أو صورة إعلامية، إذ أن الصورة كما يرى بودريار تعمل من خلال مبدأ «الخروج من هويتها»، لتبدو في حالتها الأولى كدالٍّ داخليٍّ على الوجود الواقعي مغاير، لكنه غير منفصل عنه انفصالا زائفا.
مساءلة الواقع:
لا نزوع في أعمال كريم عطار لتقليد الواقع، فهو لم يمل يوما إلى إعادة رسم الواقع أو نقله، إذ أنه لم يتأثر قط بأي اتجاه واقعي، ولو أن اهتمامه الصباغي صب في الاتجاه التشخيصي، أو الشبه تشخيصي بالأحرى. فالفنان يعمد إلى الواقع لا لينقله، بل ليبرز عبر شخوصه وكائناته تلك القسوة التي نحيا في طياتها، وهي عينها جزء من مشروعية تلك الكائنات، التي تحاكم هذا العلم. لهذا اختار عطار أن يؤلف أعمالا تكشف عن الكائنات التي لا نكاد نبصرها، لكنها جزء من عالمنا، كائنات تشبهنا في التفاصيل، إن لم نكن نحن هي.
ليست الشخوص في أعماله أيقونات، بل إنها كائنات سيمولاكرية تكشف عن نفسها ببدن مختلف وجسد مغاير. ولها لغتها الخاصة، لغة مليئة بالرموز ومكثفة بها. ما يبتغي معها نوع من فك التشفير، إذ أننا أحيانا نستفيق أمام تعدد في الاشتغال الصباغي، حيث بالإضافة للعمل على مستوى تعدد الطبقات الصباغية، فالفنان وظف الكولاج ـ في مرحلة معينة – في تلاعب بمخيلة المتلقي، وإن تخلى عنه لصالح الرسم الصباغي. ففي أعمال عدة تتخذ الشخوص رؤوسا وجماجم مرعبة، نموذج تلك الجماجم المصوّرة التي يعمد إلى تركيبها فوق رسومه الصباغية، زيادة على أشكاله المستوحاة من أوراق اللعب من «زراويط» وسيوف.
هنا بالتحديد، تأتي تلك الأشكال المستوحاة من أوراق اللعب باعتبارها علامات ذات بعد متعلق بما هو سلطوي وسياسي حتى. فالفنان يحيط شخوصه في أعماله الأخيرة بعصي وسيوف أشخاص أوراق اللعب. عصي غليظة ومرنة وسيوف حادة. مشكلا بها دوائر كأنها تحد من حرية حركة تلك الكائنات، أو كأنها تيجان من أشواك، ما يحيلنا إلى آلام الإنسان من أجل الخلاص والتضحية بالذات من أجل ذلك، إنها دلالة على الإنسان الذي يعيش داخل عالم من القمع والتسلط والحدود، وكما الاضطهاد المتولد عن عدة مستويات سلطوية، من سياسة ولغة وإعلام ومجتمع… فالكائن الإنساني ما أن يتحرر من سلطة حتى يدخل في صراع مع أخرى، بل إنه كلما تقدم حضاريا تولدت سلط جديدة عليه أن يحاربها وينتصر عليها. فتغدو بالتالي السلطة متلازمة أبدية تتخذ أشكالا هلامية متعددة. والواقع المعاصر، يرتبط بسلطة الصورة التي جعلت لنفسها شكلا أخطبوطيا متعدد الأوجه.
فوضى العالم لا تجد لها نظاما إلا داخل العمل الفني، والواقع لا يتمتع بأي انسجام، فكان لابد من إعادة تنظيمه ـ كما يسعى كريم عطار- داخل العمل الفني لمساءلته وترويضه.
جماليات الرعب:
بالإضافة لسلطة الصورة التي يحيا بين مخالبها الكائن الإنساني، فهو يعيش في عالم من الرعب والفزع، هذا الأخير الذي حسبما يذهب إليه الفيلسوف الوجودي كيرككورد هو سبب الشرور في العالم بأسره. يحاول الفنان كريم عطار أن يضعنا إزاء هذا الأمر عبر تلك الشخوص التي تتخذ لنفسها رؤوسا من جماجم مرعبة، في صور نكاد نصطلح عليها بـ«صور جنائزية» منتمية لما يسمى بـ«الفن الجنائزي». فالعالم ينتقل من دمار إلى دمار ومن يباب إلى آخر، ومن تشظ إلى تشظ أكبر… لهذا يعمد عطار إلى تركيب نص سردي صباغي من مشاهد درامية وجمالية، كأنها متتاليات مشهدية. ولا يسعى الفنان هنا لينقل اليومي والعابر، بل إنه يطرح أسئلة متعلقة بالتأمل والتفكير في الأحداث ككل، بلا تجزيئها.
أكاد أقول إن كريم عطار يصطحبنا إلى الجحيم، لولا الحياة التي تكتسبها شخوصه (ويمثل ذلك القلب الذي نحا إلى إبرازه الفنان، الذي يأتي محمولا على ظهور شخوصه). إلا أن هذه الأخيرة تعيش في حالة رعب واضح. إذ يكون الرعب والخوف هو أقدم الحالات التي جابهها الإنسان واكتسبها، بل لعله عرف عالمه وتصوّره وسمّاه انطلاقا من حالة الخوف والرعب تلك. ومنها خرجت المحكيات والأساطير والماورائيات… وهنا تكمن جمالية الرعب لدى هذا الفنان، إذ يجعل منها مصنعا لمشاهده الدرامية وعوالمه الغرائبية والعجائبية التي تحيا فيها كائناته، تلك التي تكاد تكون مصابة بالرهاب والاضطراب النفسي والعاهات، لها أمراضنا النفسية نفسها لكنها ليست بشرا من لحم ودم. إنها في حالات جنائزية تجر خيباتنا ومآسينا وآلامنا… فتحاكمنا كما تحاكم الواقع، أي أن الفنان هنا يواجه الرعب الناجم عما يقترفه الكائن البشري في حق نفسه بـ«رعب فني»، فالفن كما يخبرنا نيتشه «إنما يأتي في مواجهة الرعب الناشئ عن غياب أي معنى للحياة، ليبرّر الوجود نفسه. والفن في هذا يأتي في تعارض تام مع العلم الذي – منذ سقراط – لم يكف عن إفقار الثقافة الغربية بفعل حاجته الدائمة إلى رفع الحجاب عن الحقيقة» (ميلاد التراجيديا). ولأن العلم لاعقلاني وأبسوردي ولا غاية عليا فيه، فإننا إذن، في حاجة للفن لإزالة الرعب الذي يشوب عالمنا، أي أننا لابد من الانطلاق من الفن والعمل الفنين باعتباره نشاطا ميتافيزيقيا في حد ذاته، ففوضى العالم لا تجد لها نظاما إلا داخل العمل الفني، والواقع لا يتمتع بأي انسجام، فكان لابد من إعادة تنظيمه ـ كما يسعى كريم عطار- داخل العمل الفني لمساءلته وترويضه.
عتبة الخروج:
بالتالي فأعمال كريم عطار تأخذنا إلى مستويات متعددة من القراءة والتأويل، ولا تتوقف عن مساءلة واقعنا المعاش واليومي وما يتعلق به من صور وسلط لها أشكال لامتناهية. فالفنان يرفض الاشتغال الكلاسيكي ذي الاتجاه الأحادي للمعنى. فيعمد لجعل عمله «عملا مفتوحا»، فيدفع المتلقي نفسه ليقيم شبكة علاقات، ناتجة عن تشابك الصلات وتعدد الرموز وتكثيفها، وترك مساحة أهم للفراغ. فالفنان يحاول أن يبني عالمه الخاص، انطلاقا من صلته المباشرة بالمادة التي يختارها بعناية ويحولها إلى عمل فني عامر بالتأويلات والقراءات، وكما الكائنات التي تسائل الواقع لا أن تشابهه. فالصورة لدى كريم عطار لا تنفصل عن السند ومواده الذي يتممها كما يتمم الأسلوب عينه.
نقلا عن القدس العربي