بعد سنوات من الأبحاث والتقارير عن تلوث الهواء، تكشفت لنا حقائق جديدة تدحض الكثير من المعلومات التي طالعتنا بها الصحف عن أكبر مشكلة بيئية يواجهها العالم في الوقت الراهن.
وطالما قرأنا، على سبيل المثال، أن الجسيمات الدقيقة التي لا يتجاوز قطرها 2.5 ميكرومتر قد تتغلغل في الرئة وتنفذ إلى مجرى الدم. لكن الغالبية العظمى من هذه الجسيمات في الحقيقة لا تخترق الرئة.
وبينما كنا نظن أن أكاسيد النيتروجين، مثل ثاني أكسيد النيتروجين، تمثل أكبر تهديد على الصحة في المدن، فقد اتضح أنها مسؤولة عن 14 في المئة فقط من الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء في أوروبا.
غير أن أكبر مسبب للموت غاب عن عناوين الصحف الرئيسية، ولا يكاد يتحدث عنه أحد خارج الدوائر العلمية. إذ اكتشف أن القاتل الأكبر هو جسيمات متناهية الصغر يبلغ قطرها 100 نانومتر أو أقل وتسمى الجسيمات النانوية.
وتكمن المشكلة في أن السلطات العامة تصف جميع الجسيمات التي لا يتجاوز قطرها 2.5 ميكرومتر بأنها تحمل نفس المخاطر الصحية، ومن ثم تسيء تقاريرهم تقدير المخاطر الحقيقية للجسيمات النانوية.
وفي عام 2003، شاركت سوربجيت كاور، الباحثة الشابة آنذاك بجامعة إمبريال كوليدج لندن، مع ستة متطوعين في تجربة لقياس مدى تشتت الملوثات وانتشارها في البيئة المحلية. وحمل كل منهم أجهزة استشعار مختلفة لقياس جودة الهواء. وانطلقت كاور مع المتطوعين في شوارع وسط لندن لمدة أربعة أسابيع.
وبالإضافة إلى معدات قياس الجسيمات العالقة في الهواء التي لا يتجاوز قطرها 2.5 ميكرومتر، حمل المتطوعون أيضا جهازا جديدا لعد الجسيمات النانوية التي قد لا يتعدى قطرها نانومترين، أي أصغر بمراحل من خلايا الدم البشرية. إذ يسحب الجهاز الهواء، ثم يرش الكحول على سطح الجسيمات لتصبح مرئية وبعدها يقوم بحصرها عن طريق حزمة الليزر.
وشعرت كاور أن حصر هذه الجسيمات سيضفي قيمة كبيرة على البحث، لكنها تقول إنها فوجئت بحجم الجسيمات النانوية متناهية الصغر التي تدخل الجسم كلما مرت سيارات بجوار المتطوعين. إذ اكتشفت أن المتطوعين كانوا يتعرضون لما يتراوح بين 36 ألف و130 ألف جسيم نانوي في كل مرة يسيرون فيها على أرصفة الشوارع الرئيسية، وزاد عدد الجسيمات التي تعرضوا لها عندما قطعوا المسافة بالدراجة.
لكن أعلى معدل من الجسيمات سجله المتطوعون كان داخل السيارات والحافلات. فكلما اقترب الشخص من مصدر التلوث، وهو أنابيب العادم التي تنشر الدخان، زاد إجمالي الجسيمات النانوية التي يتعرض لها.
وبلغ متوسط الجسيمات النانوية التي تعرضوا لها عند حافة الرصيف 82 ألف جسيم، بينما بلغ عددها 69 ألف عندما ساروا بالقرب من المبانى. وعلى النقيض، لم تتغير قياسات الجسيمات الدقيقة التي يبلغ قطرها 2.5 ميكرومتر، سواء كانوا قريبين من السيارات أو بعيدين عنها.
ورغم ذلك لم تسهم نتائج دراسات كاور في تغيير الطريقة التي ترصد بها السلطات الحكومية حجم التعرض لتلوث الهواء. لكنها ألهمت براشانت كيومار، طالب الماجستير بالمعهد الهندي للتكنولوجيا، لدراسة الجسيمات النانوية وتركيزاتها في البيئات المختلفة. وأجرى دراسات عديدة منذ عام 2008 كانت نواة لأبحاث ودراسات أخرى عن تأثير التعرض للجسيمات النانوية.
ويقول كيومار: “يخرج دخان العادم من المركبات في صورة غازات، ثم يبرد ويتحول إلى جسيمات أصغر حجما تقاس بالنانومتر، وتتراكم هذه الجسيمات لتشكل جسيمات أكبر حجما. فقد يخرج من ماسورة العادم مليون جسيم نانوي لكل سنتيمتر مكعب من الهواء”. وخلصت دراساته إلى أن 90 في المئة من الجسيمات في الطرق المزدحمة يقل قطرها عن 100 نانومتر.
أما عن المشاكل الصحية لهذه الجسيمات النانوية، فيقول كيومار: “كلما قل قطر الجسيمات، زادت قدرتها على اختراق الجسم والتوغل في مساحة أكبر حجما، وهذا يعني زيادة تأثيرها السمي”.
وقد تشغل سحابة من مليارات الجسيمات التي لا يتجاوز قطرها 10 نانومترات مساحة أكبر ملايين المرات من تلك التي يشغلها جسيم واحد لا يتجاوز قطره 10 ميكرومتر، رغم أن كلاهما له نفس الكتلة. وهذه المساحة ستكون مليئة بجسيمات الوقود غير المحترق السام من عوادم المركبات.
وسلط كيومار في دراسات أخرى الضوء على حجم الجسيمات التي يتعرض لها الأطفال في شوارع البلدات داخل عربات الأطفال. واكتشف أن الأطفال يتعرضون لعدد أكبر من الجسيمات مقارنة بالبالغين أثناء الانتظار عند إشارات المرور، وأنهم أشد تأثرا من كبار السن بتبعات التعرض لهذه الجسيمات، لأن أجهزتهم المناعية في مرحلة النمو.
وأشارت دراسة عن صحة الأطفال في كاليفورنيا إلى أن السكن في مبان تبعد نصف كيلومتر أو أقل عن الطرق المزدحمة، يؤثر سلبا على نمو الرئة لدى الأطفال.
وبينما تعجز الجسيمات التي لا يتجاوز قطرها 2.5 ميكرومتر عن اختراق الرئة، فإن الجسيمات النانوية يمكنها النفاذ عبر جدران الرئة ودخول مجرى الدم، ومنه إلى أي عضو من أعضاء الجسم والشرايين في الجسم، وتسبب نفس الضرر التي قد تسببه للرئة.
وفي عام 2017، استعان فريق من الباحثين بقيادة ديفيد نبيوباي، أستاذ بجامعة إدنبره، بجسيمات الذهب للكشف عن مسار هذه الجسيمات الدقيقة في الدم بقتنيات التصوير الطبي.
واستخدم الفريق جهازا يعتمد على القطبان الكهربائية لنشر الذهب وسط الجسيمات النانوية. وبعد أن استنشقت الفئران هذه الجسيمات، طلب الفريق من متطوعين من البشر استنشاقها. وتقول جين رافتيس، إحدى عضوات الفريق البحثي، إن الذهب خامل لا يسبب أضرارا ولا يتفاعل مع مواد أخرى، ويسهل الكشف عنه في الجسم.
وجمع الباحثون عينات من البول والدم بعد 15 دقيقة و24 ساعة من استنشاق الجسيمات، واكتشف الباحثون أن جميع الجسيمات التي يقل قطرها عن 30 نانومتر دخلت إلى مجرى الدم، بينما عجزت الجسيمات الأكبر حجما عن اختراق الرئتين.
وتقول رافتيس: “فحصنا عينة من أنسجة الفئران، ولاحظنا أن أكبر تراكمات للجسيمات كانت في الرئتين، وتليها الكبد، لأن الدم يمر خلالها أولا. في حين أن أي جسيمات تتجاوز 5 نانومترات لا تمر عبر المسام في الكلى.” وظلت آثار الذهب موجودة في عينات بول المتطوعين بعد ثلاثة شهور من تعرضهم للجسيمات الدقيقة.
وتقول رافتيس إنهم عثروا على الذهب في هذه اللويحات الدهنية، مما يدل على أن جسيمات الهواء الملوث بهذا الحجم والتركيبة قد تدخل إلى اللويحات بعد 24 ساعة من استنشاقها. وهذا يمثل خطرا كبيرا على مرضى القلب.
وكلما زادت الجسيمات النانوية زادت احتمالات تكوّن اللويحات التي تسد الشرايين، لأن هذه الجسيمات تسبب التهابات للشرايين بسبب الكيماويات السامة الملتصقة بسطحها. وأشارت دراسة الأعباء العالمية للمرض إلى أن تلوث الهواء يسبب 21 في المئة من الوفيات الناتجة عن السكتة الدماغية و24 في المئة من الوفيات الناتجة عن مرض القلب الإقفاري. إذ طالما وصف دخان العادم بأنه سلاح قاتل، ويرى الكثيرون الآن أن الرصاص الذي يطلقه هو الجسيمات النانوية.
ورغم أن معظم الدول تضع دلائل توجيهية بشأن الحد الأقصى المسموح به من تركيزات الملوثات الأكثر ضررا في الهواء، منها الجسيمات الدقيقة التي لا تتجاوز 2.5 ميكرومتر وأكاسيد النتروجين وأول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت، إلا أنه حتى الآن لا توجد دلائل مماثلة بشأن نسب الجسيمات النانوية في الهواء.
ولهذا تستخدم تركيزات الجسيمات الدقيقة التي لا تتجاوز 2.5 ميكرومتر كمؤشر على جودة الهواء، فإذا كانت تركيزات الجسميات الدقيقة منخفضة، قد يتوهم البعض أن الهواء نظيفا، مع أنه يحمل ملايين الجسيمات النانوية التي تدخل شرايينا.
وفي المقابل، ترتبط تركيزات أكاسيد النيتروجين ارتباطا وثيقا بتركيزات الجسيمات النانوية، وقد تصلح كبديل لقياسها، نظرا لأن كلاهما سريع الانتشار في الهواء، وقد يتفاعل ثاني أكسيد النتروجين مع غازات أخرى في الهواء لتكوين جسيمات نانوية. ومن ثم فإن تقليص نسب ثاني أكسيد النيتروجين قد يؤدي بالضرورة إلى تقليص نسب الجسيمات النانوية في الهواء. ويقول كيومار إن كلاهما يأتي من مصدر واحد وهو دخان العادم.
ويتطلب القضاء على أكاسيد النتروجين والجسيمات النانوية زيادة الاعتماد على السيارات الكهربائية، وربما يكون البديل الأفضل هو السير أو استخدام الدراجات للقضاء تماما على الانبعاثات.
لكن ريثما نقضي على الانبعاثات في الطرق، سنحتاج إلى ابتكار حلول للحد من التعرض لدخان العادم المبنعث من السيارات، مثل تخصيص حارات في الطرق للدراجات وإقامة فواصل خضراء من الأشجار والنباتات المتسلقة بين الأرصفة والطرق.
وتقول كاور إنها غيرت عاداتها بعد هذه الأبحاث للحفاظ على صحتها، إذ أصبحت تسير ملاصقة للمباني وتتجنب الطرق الرئيسية قدر الإمكان. أما رافتيس، فتقول إنها توقفت عن إشعال الشموع في منزلها، وتحرص على تشغيل مراوح شفط الدخان أثناء الطهي. ولا تمارس الركض في الطرق الرئيسية، وتتنقل بالدراجة ولا تقود سيارة مطلقا.
المصدر بي بي سي