سميرة المسالمة – العربي الجديد
يرسم الصمت الدولي على ما يحدث في سورية ما بعد الضربات الأميركية الفرنسية البريطانية المشتركة، من استمرار استخدام القوة العسكرية المفرطة، لتدمير جميع المناطق غير الخاضعة لكامل نفوذه، وترحيل سكانها، تحت التهديد والترهيب، إشارات استفهام كبيرة بشأن نوع التفاهمات التي عقدتها روسيا مع دول التحالف الثلاثي من جهة، ومع إسرائيل من جهة أخرى، حيث تتابع قوات النظام حملاتها العسكرية المخطط لها ما قبل الضربة “غير الموجعة”، التي اعتبرها النظام مجرّد تعبير شبه كلامي عن غضب أميركي أوروبي عابر، لا يرقى إلى ما يمكن تسميته عدوانا يوجب الرد، أو حتى استنفار جهود النظام لتشكيل ردة فعل وطنية تجاه ما يمكن تسميته اعتداءً على “السيادة” السورية، أي أنه بمثابة مطبٍّ عابر لم ولن يعرقل متابعة مخطط الأرض المحروقة التي ينتهجها النظام في مناطق الحواضن الشعبية للثورة، وتلك المناطق المصنفة تحت مسمى “عشوائية” ومخيمات.
صحيح أنه لا يختلف ما يصيب مخيم اليرموك اليوم من دمارٍ كامل، ووحشية في مسح آثار سكانه، عن كل ما حدث في حمص وريف دمشق وحلب وإدلب ودرعا وأماكن متفرقة من سورية، وهو قابل لأن يحدث أيضاً، فيما تبقى من مناطق يصنفها النظام تحت بندين: إما أنها مناطق خارج نفوذه، أي أنها تحت سيطرة معارضته، أو قوى غير المليشيات التي استقدمها إلى سورية، أو هي مناطق تقع ضمن مخططات إعادة الإعمار التي كان قد وضعها ضمن ما
سميت خريطة “سورية الجديدة”، ومنها مخططات جديدة لدمشق الكبرى، وحمص الجديدة التي سميت آنذاك مخطط “حلم حمص” قبل بداية الثورة، مع دخول استثمارات عقارية كبرى إلى سورية، وإحداث ما سميت الشركات القابضة التي يعتبر إعادة الإعمار أحد أهم نشاطاتها الاستثمارية في سورية. ولكن مع أن المشهد التدميري للمناطق التي تجتاحها القوات النظامية بالشراكة مع كل من روسيا وإيران لا تختلف تفاصيله من مكان إلى آخر، إلا أن لما يحدث في اليرموك دلالات خطيرة، وفيه رسائل متنوعة المعاني والوجهات، على الرغم من أن ضحاياها هم، هذه المرة، من الفلسطينيين والسوريين في آن.
بداية لا يمكن تصنيف مخيم اليرموك أنه خارج سيطرة النظام، حيث الحصار الخانق الذي مارسه النظام عليه منذ بداية الحراك الشعبي فيه ضد منظومة الاستبداد عام 2012، وإحكام القبضة الأمنية داخله، بفعل وجود أتباع الفصائل الفلسطينية الموالية له، والتي من خلالها تم السيطرة على النشاطات السلمية التي ساندت الثورة السورية، وتعاطفت مع ضحاياها، وبفعل توزيع النظام وقادة الفصائل الفلسطينية الموالية له السلاح على من سمّوا “الشبيحة”، ما يستبعد تماما قدرة أي فصيل معارض على العمل داخل المخيم، ما لم يدخل بموافقة الجهات الأمنية السورية، ولخدمتها، ومنهم مسلحو جبهة النصرة وتنظيم داعش، أي أن المسلحين سواء اعتبرهم النظام من المليشيات التابعة له أم من المناهضين له هم في مخيم اليرموك لأداء دور وظيفي، يمكن تحريكه في اللحظة التي تتناسب وسير مشروع النظام في استعادة المناطق تحت سيطرته، مع سياسة نزعها من سكانها خدمةً لمشروع التغيير الديمغرافي من جهة، وتحديث خريطة المناطق الإدارية من جهة ثانية، وتوجيه رسائل سياسية من جهة ثالثة، وتجمع عملية تهديم مخيم اليرموك وتهجير سكانه بين المهمات الثلاث سابقة الذكر، وأهمها ما يمكن أن ترمز له عملية اليرموك سياسياً.
الرمزية التي يعنيها مخيم اليرموك والتجمع السكاني الفلسطيني الكبير الذي يشكل مرجعية شعبية لأساسيات القضية الفلسطينية التي يقع حق العودة في مقدمتها، والذي كان يعد من أدوات النظام السوري في الضغط على الأنظمة العربية، وعلى الشعب السوري في الآن نفسه، حيث يستدر من الحكام العرب مساعدات مالية من ناحية، ويقمع السوريين ويهمين على مقدرات بلدهم الاقتصادية، لتغيير أولويات موازنات الدولة، من التنمية وتحسين مستوى المعيشة إلى حالة الطوارئ والاستنفار من ناحية أخرى. وهو ما أسفر عن إبقاء سورية تحت هيمنة قانون الطوارئ منذ عام 1963، “بوهم” حالة الحرب مع إسرائيل، وعلى الرغم من أن النظام أنهى العمل بهذا القانون، إثر مطالبات المتظاهرين من السوريين بإنهاء حالة الطوارئ المفتعلة نحو خمسة عقود متتالية، عبر مرسوم صدر في 21 إبريل/ نيسان 2011، إلا أنه أنتج قوانين جديدة تتيح له مضامينها الاستمرار بحالة الحكم الاستثنائي التي تمنع الحريات، وتقوّض أحلامهم بالعيش الكريم، بعيداً عن القبضة الأمنية التي تنتهك حقوقهم المواطنية.
الرسالة السياسية المفتعلة بتهديم مخيم اليرموك، أحد رموز التهجير القسري الفلسطيني الذي
أحدثه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، تعني بعثرة التجمعات الفلسطينية الضاغطة، لإيجاد حل جذري للجوء الفلسطيني الجماعي، وتحويلها إلى قضايا فردية، يبحث كل منهم عن مأوى يجنّبه الموت تحت القصف، وويلات الحرب السورية. ويعيد النظام السوري بذلك توزيع الفلسطينيين بين دول العالم، لينهي المداولات من ناحيته بشأن حق العودة للفلسطينيين المقيمين في سورية. وفي هذه الرسالة التي يوجهها كل من النظام وروسيا، ومعهما إيران وحزب الله، إلى كل مناصري إسرائيل لامتصاص حالة التشنج ومخاوف هذه الدول التي تعمل لتحقيق أمن إسرائيل أولوية لها، خلال عملية البحث في حل للصراع في سورية.
وعلى ذلك، فإن استشعار مثقفين وسياسيين فلسطينيين وسوريين خطورة ما يحدث في مخيم اليرموك، وإصدارهم بيان إدانة، في هذا الخصوص، وسط صمت عربي ودولي، يأتي في سياق تلمس مخاطر ما بعد هذه الجريمة التي تتمثل بهدمٍ موجهٍ ومنظمٍ للمخيم، على القضية الفلسطينية ومسارات الحل السياسي الذي يتضمن حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ليكون ما يحدث للمخيم جريمة ثانية يرتكبها النظام لحساب إسرائيل الجديدة و”الصديقة” في المنطقة العربية، وليس في سياق أن هناك عملية تمييز ما بين جريمة مسح مخيم اليرموك من الذاكرة السورية والفلسطينية وتهجير سكانه، وما حدث في مناطق سورية ومدنها، وكان أفظعها وأشدها عنفاً في الغوطة الشرقية، وقبلها حمص وحلب.