من الطبيعي، بعد فشل الانقلاب في تركيا، أن يلجأ الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته إلى ملاحقة كل من خططوا وشاركوا في العملية ومحاكمتهم ومحاسبتهم، عسكريين كانوا أو مدنيين أو قضاة أو مسؤولين في الدولة. وفي حال نجح الانقلابيون، فإنهم كانوا سيفعلون الأمر نفسه، وربما كنا سنشهد الرئيس التركي نفسه في قفص الاتهام.
كان ما حدث، ليلة 15 يوليو/ تموز الجاري، كبيراً ومفاجئاً، ولا تزال معطياته غامضة إلى حد كبير، خصوصاً وأنه كانت قد ترسخت قناعة لدى عواصم كبرى كثيرة أن زمن الانقلابات في تركيا ولى إلى غير رجعة، بعد أن حملت الانتخابات، للمرة الرابعة على التوالي، حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وعزّزت التجربة الديمقراطية لحزبٍ إسلامي في السلطة، في الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط العضو في الحلف الأطلسي، غير أن الأمر اللافت بشكل خاص هو اتساع حملة الاعتقالات واستمرارها وشمولها مختلف المناطق والقطاعات والمرافق العسكرية والأمنية والحكومية والمدنية، وطاولت أقرب المقرّبين من أردوغان نفسه الذي دأب أخصامه في الداخل والخارج على تسميته، أخيراً، “السلطان العثماني الجديد”، بعد أن سعى، في السنوات الأخيرة، إلى حصر معظم السلطات في يده. وقد دفع عدد الموقوفين الذي بلغ ربما عشرة آلاف، خلال أيام معدودة، إلى طرح، ليس السؤال الطبيعي والبديهي الذي يبديه الجميع حول قدرة السلطة وسرعتها في استعادة زمام الأمور وإعادة السيطرة على الوضع في ساعات قليلة، وإنما السؤال المعاكس حول عدم نجاح الانقلاب، إذا كان هذا هو فعلاً حجم رقعة المؤيدين والمشاركين والمخططين له واتساعها، وبالتالي، سعة انتشار التململ والنقمة، وتمدّد أذرعها في عمق المجتمع التركي.
“الأمر اللافت بشكل خاص هو اتساع حملة الاعتقالات واستمرارها وشمولها مختلف المناطق والقطاعات والمرافق العسكرية والأمنية والحكومية والمدنية، وطاولت أقرب المقرّبين من أردوغان نفسه”
فهل الذين حاولوا القيام بالانقلاب من الهواة، نظراً إلى فشلهم السريع، استناداً إلى ما تبين من انعدام وجود خطةٍ محكمةٍ وسريعةٍ، للسيطرة على مفاصل الدولة الحيوية، ولغياب قائد رمز يكشف عن وجهه، يضع خطةً، ويشرف على تنفيذها مع مجموعة صغيرة من الضباط في معظم التجارب الانقلابية. مع العلم أن هناك ضباطاً كباراً من الأركان، ومن القيادة، خططوا للانقلاب، أو شاركوا فيه، وأعدادهم مئات، ومنهم المستشار العسكري لأردوغان نفسه. وهذا بحسب المعلومات التي يعلنها تباعاً رئيس الحكومة، بنعلي يلدريم، الذي قال، إن أعداد المحتجزين من المشتبه بعلاقتهم بالانقلابيين، بلغ خلال يومين 8877، منهم 6038 من مختلف الرتب العسكرية، بينهم 20 في المائة من جنرالات الجيش، وهذا عدد كبير وخطير، و755 قاضياً ومدعياً عاماً (بينهم اثنان من قضاة المحكمة العليا). والأغرب أن من تولى مواجهة الانقلابيين، واعتقال ضباط الجيش وعناصره المتورّطين هم أفراد من قوى الأمن الداخلي.
هل هذه معلومات غير دقيقة؟ يبدو الإرباك سيد الموقف لدى السلطة التي تتصرف خبط عشواء، وكأنها لم تكن تتوقع استعادة زمام الأمور بهذه السرعة، وتوحي، في الوقت عينه، إلى أنها متفاجئة بما حصل، وغير مدركة حقيقة هوية المخططين، فرئيس الحكومة يسعى، من جهة، إلى طمأنة القيادات العليا في الجيش. ومن جهة أخرى، يبدو مشكّكاً بكل ما حوله، وباحثاً عن رأس المؤامرة. بعد إعطائه كل هذه الأرقام، ينفي يلدريم أي علاقةٍ لمن قاموا بالانقلاب بالجيش التركي، و”أن الجيش لا علاقة له بمن تلطخت أيديهم بالدماء… يجب ألا نخلط بين القوات المسلحة التركية وجنودنا وضباطنا، وبين هؤلاء الخونة”، قبل أن يعود ويستدرك، مؤكداً أن محاولة الانقلاب “حصلت داخل الجيش التركي والقوات المسلحة. لكن، من نفذها ليسوا من ضباط صف الجيش التركي…”! كيف ذلك ومن هم إذن؟ يجزم يلدريم أن غالبية المعتقلين “اعترفوا” أنها من تدبير زعيم حركة الخدمة، الداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، المعروف بـ “إمام الكون”، وهو المدبر لهذا التمرّد. ومتى تم التحقيق مع كل هؤلاء الآلاف من المعتقلين بهذه السرعة؟ واستغرب يلدريم، كيف أن واشنطن طلبت تقديم دليل على تورط غولن، رداً على طلب أنقرة منها تسليمه.
وإذا كان كل المعتقلين من أصحاب الشأن في القوات المسلحة والأمن والقضاء ومن كبار الموظفين في وزارة الداخلية (أكثر من 6 آلاف موظف تم اعتقالهم) ينتمون الى حركة غولن، فعلى أردوغان أن يواجه ظاهرةً شعبيةً، آخذة في الانتشار والتوسع أكثر فأكثر، في مواجهة سلطته التي تجنح تدريجياً نحو التفرد والاستبداد. كما أن عليه أن يدرك أن العامل الحاسم في إفشال المحاولة الانقلابية افتقادها إلى الحاضنة الشعبية التي كانت تحظى بها الانقلابات الأربعة التي عرفتها تركيا منذ 1960، ويعود الفضل، في هذا الأمر، إلى أحزاب المعارضة التركية التي، وعلى الرغم من قدرتها على إحداث استقطاب سياسي وشعبي واسع، إلا أنها رفضت إعطاء أي شرعية أو غطاء للانقلابيين، ونزلت، منذ اللحظات الأولى، إلى الشارع، وهي أحزاب، الشعب الجمهوري (العلماني) والحركة القومية (اليميني) والشعوب الديموقراطي (الكردي). وهي طبعاً تصدّت للانقلاب، وما له من مضاعفات على الديمقراطية في تركيا، ولم تنزل دعماً لأردوغان. وهو، بالتالي، سيجد نفسه في الأسابيع والأشهر المقبلة بين فكي كماشة، تجسّدها، من جهة، حركة جماهيرية واسعة، لها المنطلقات الدينية نفسها، وكانت على تناغم معه، إلى غاية ست سنوات خلت. ومن جهة أخرى، أحزاب المعارضة التي ستزداد معارضتها، وتصبح أكثر حزماً بعد أن وضعت في رصيدها وقوفها ضد انقلابٍ، كان يستهدف خصمها في السلطة.
فهل يمارس أردوغان عملية هروب إلى الأمام، ويدعو إلى انتخاباتٍ مبكّرةٍ، محاولاً الاستفادة من الالتفاف الشعبي، لحصد الأكثرية البرلمانية (نسبة الثلثين) من أجل تعديل الدستور وإخراج الأكراد من البرلمان، وهم الذين دخلوه على حصانٍ أبيض، أول مرة في الانتخابات، أخيراً. أم إنه سيختار الذهاب إلى ممارسة سياسة الانتقام والتضييق على الخصوم، وتحديداً حركة غولن “كبش المحرقة” التي راح يتوعدها، منذ الساعات الأولى التي تلت المحاولة الانقلابية؟ الأكيد أن ما بعد الانقلاب لن يكون كما قبله، فجرس الإنذار قد دقّ لـ “السلطان الجديد”.
العربي الجديد