على عكس ما يدّعيه بعضهم من أنه لا يوجد حل أو مخرج للحالة المأساوية التي تعيشها المنطقة العربية الآن، خصوصاً على مستوى النزاعات الداخلية في أكثر من بلد، كاليمن وليبيا ومصر وسورية، فإن ما يطرحه الباحث الصديق، إبراهيم فريحات، في كتابه الجديد “ثورات غير مكتملة” أو “ثورات ناقصة”، يعد وصفةً ناجعةً قد تمثل البداية للوصول إلى هذا المخرج. ففي كتابه، يطرح فريحات مسألة المصالحة الوطنية باعتبارها “زورق النجاة” من حالة الاحتقان والاستقطاب والانقسام التي تضرب المنطقة العربية، سواء على مستوى الإقليم أو المجتمعات المحلية.
كتاب فريحات الصادر عن دار نشر جامعة ييل، وهي دار نشر مرموقة ومعروفة في الأوساط الأكاديمية، نتيجة جهد بحثي أجراه طوال الأعوام الماضية، ومستند إلى مقابلاتٍ كثيرة أجراها الباحث مع مسؤولين ومواطنين في ثلاثة بلدان عربية (اليمن وليبيا وتونس) في السنوات القليلة الماضية. ولعل هذا ما يميز هذا الكتاب، أنه لا يطرح رؤيًة مثاليةً أو طوباويةً للخروج من المأزق الحالي للدولة العربية، وإنما يطرح، بالأساس، حلولاً واقعيةً منسجمةً، إلى حد بعيد، مع طبيعة الظروف المحلية والإقليمية لهذه الدولة. كما أنه لم يغرق في الوصف التفصيلي لما يحدث في اليمن أو ليبيا أو تونس، وإنما قدّم وصفة علاجية لهذه البلدان (خصوصاً اليمن وليبيا) قد تساعدها على الخروج من مأزقها. تبدأ هذه الوصفة بالحوار الوطني، لكي تنتهي بالمصالحة الوطنية الشاملة.
يعترف فريحات بأن الوصول إلى هذه النتيجة ليس أمراً هيّناً أو سهلاً، فثمة عقبات عديدة تعترض طريق المصالحة الوطنية في أي بلد، ليس أقلها من هي الأطراف التي يجب أن تشملها المصالحة، وما هو توقيت إجرائها، وما هي بنودها وشروطها وسقفها، وما هي ضماناتها، والأهم كيف تتم المصالحة، من دون معاقبة المتورطين في قضايا العنف والقتل والدمار. هنا، يرى فريحات أن المصالحة، كمفهوم إجرائي، لابد أن تشمل خمسة عناصر: الحقيقة، الترميم، المحاسبة، الإصلاح المؤسسي، الحوار الوطني، وهي عناصر تبدو أساسيةً لنجاح أي عملية مصالحة وطنية.
الأهم أن الكتاب لا يغفل السياقين، الإقليمي والدولي، فيما يخص عملية المصالحة الوطنية، بل على العكس، هو يتعامل معهما بقدرٍ عالٍ من الجدية والرصد. وهنا، يطرح إبراهيم فريحات نقطةً غايةً في الأهمية، هي أن المصالحة الوطنية هي “نبتة محلية” بامتياز، ولا يمكن فرضها من الخارج. بل يجب أن تستند إلى العوامل الذاتية، كالمجتمع المدني والأحزاب السياسية والمرأة، والسماح لهم بقيادة عملية المصالحة. وهنا مربط الفرس، فإذا نجحت هذه الأطراف والمؤسسات في بدء عملية المصالحة ودفعها، لن يكون أمام الأطراف الإقليمية والدولية سوى الرضوخ لها. ولدينا نموذج واضح على ذلك ما حدث، أخيراً، في التجربة الليبية التي نجحت أطرافها الداخلية في الاتفاق على خطوطٍ عريضةٍ للخروج من المأزق الراهن، فيما عُرف باتفاق الصخيرات، والذي اضطرت القوى الإقليمية أن تقبل به، أقله حتى الآن.
كتاب فريحات هو الرد الأبلغ على المقولة المتهافتة التي تدّعي أن ثورات الربيع العربي قذفت المنطقة باتجاه الفوضى وعدم الاستقرار، ويعيدنا إلى أصل المشكلة، وهو الأنظمة السلطوية التي مكثت في السلطة عقوداً، ورفضت أن تستجيب للمطالب المشروعة لشعوبها، كالحرية والعدالة والكرامة. كتاب فريحات كُتب بأقلامٍ أكاديمية عربية، بعيداً عن الرؤى والتحليلات الاستشراقية والسطحية المعلبة التي تقذفنا بها الميديا الغربية كل يوم. ويظل أفضل ما في الكتاب استخدامه وصف “ثورات”، وهو مصطلح كاد أن يُطمس تحت وطأة الدعايات المضادة التي تسعى، جاهدةً، إلى تصوير ما حدث قبل خمس سنوات فوضى، أو ما شابه.
العربي الجديد