خطر في ذهني بعد خروجي من موعدٍ لطبيب الأسنان أن أتجول في إحدى ساحات المدينة أستمتع بظلال شمس شباط اللطيفة، فأشعتها لا تلسع الوجه في مثل هذا الوقت من السنة، كانت وجهتي “ساحة المدفع” كما نسمّيها نحن السوريين هنا في مدينة الرّهى “شانلي أورفا التركية”.
شاهد… قصة أملاك ليلى التي عرفت بموت زوجها المعتقل من خلال صورة
لم تكن ملامح ساحة المدفع مختلفةً عن سابقاتها من الأيّام، إلى أن كسر ذلك الروتين الثابت في تفاصيلها، قدوم 3 فتياتٍ صغيراتٍ لم يتجاوزن العاشرة من أعمارهنّ، تجاهي دوناً عن غيري. والابتسامةُ تخطّ ملامحها على وجوههن الصغيرة.
“عمو اشتري مناديل, العلبة بليرة, الله يخليك” قالت أكبرهنّ سناً هذه العبارة على أمل أن يسعفها الحظّ وأشتري منها علبة المناديل “المحارم”.
كرّرت جملتها علّي أقتنع وأشتري، على الرّغم من أنّني هيّأت نفسي لشراء علبة محارم من كلّ واحدة منهنّ, إلاّ أنّ الإصرار والأمل في عيونهنّ قد سلب منّي السمع وشتّت انتباهي للحظات.
“ما اسمكن يا أميرات” سألتهنّ وقلبي يعتصر عليهنّ من الحزن والألم لما آلت بهنّ الحياة, فأجابت الكبرى ذات الشعر الأسود المربوط ك “ذيل الحصان” كما تسميها النّساء عادة”، وعيون عسليةٍ امتزج بياضهما ببعض الاصفرار نتيجة الإرهاق أو ربّما فقر الدّم, ووجهٍ نحيلٍ كسرت الابتسامة شحبه والألم الذي يعانيه “أنا اسمي ربيعة وهاتان أختاي سلوى و رغد”.
طلبتُ منهنّ الجلوس بمحاذاتي حيث أجلس لنتبادل أطراف الحديث فأومأن بالقبول بعد نظراتٍ متبادلةٍ فيما بينهنّ رافقتها ابتساماتٌ بريئةٌ ساحرةٌ, فجلسنَ بجانبي لتبدأ سلوى ذات الشعر الأشقر والعنين الخضراوين “يعني رح تاخد مننا محارم عمو!!!”
“سآخذ, ولكن بعد أن تحدّثوني عنكن يا صغيرات, أين أهلكنّ ولماذا تعملن في بيع المحارم فأنتنّ ما تزلن صغيرات على العمل”
قالت ربيعة وقد خيّم الحزن على ملامح وجهها الطفولية البريئة “أنا في الصف الرابع, وسلوى في الصف الثالث, أمّا رغد فما تزال في الروضة, نحن من سوريا ونعمل ببيع المحارم منذ سنةٍ بعد أن خرجنا من المخيم لنساعد والدي ووالدتي في مصروف البيت, فأبي لا يستطيع العمل لأنّ قدمه اليسرى مشلولةٌ بسبب صاروخٍ ضرب حارتنا في سوريا وأصاب قدم والدي”
أكملت ربيعة حديثها وهي تتجوّل بعينيها في محيط الساحة “نمضى معظم وقتنا في الشّوارع والسّاحات لنبيع ما لدينا من مناديل, والكثيرون يعطوننا المال دون أن يأخذوا مقابلها المناديل وهذا يشعرنا بالحزن وكثيراً ما نتساءل: إلى متى سنبقى على هذه الحال!!!”
عانقت ربيعة أختيها وطافت عيناها بالدموع وقالت “أنا المسؤولة عن أٌختَيَّ وأخاف عليهما من أيّ سوء قد يصيبهما أثناء عملنا, فإن حدث لهما أيّ شيء سأكون أنا الملامة على ذلك”
أجبتها بكلّ إعجابٍ “لو أنّ كلّ السوريين يقولون ما قلت يا ربيعة ‘‘أنا من سوريا’’ لكنّا أنهينا أكثر من نصف الطريق الذي نخوضه في سبيل الحريّة التي فقد والدك بسببها قدمه”
الجدير ذكره أنّ عدداً كبيراً من الأطفال السوريين يعملون ببيع المناديل أو جمع الكرتون والنايلون أو حتّى التسول من أجل مساعدة ذويهم كربيعة وأختيها أو مرغمين عن طريق عصاباتٍ تعمل على استغلال الأطفال وتشغيلهم.
فبحسب إحصائيات منظمة اليونسيف وفقاً لوزارة العمل في حكومة النّظام قرابة 40% من الأطفال تحت سن الثالثة عشرة يعملون، وفي لبنان يوجد قرابة 350 ألف طفلٍ سوري يعمل، وبحسب وزارة العمل اللبنانبة ثلاثة من كل أربعة أطفال يعملون في الشوارع 3% منهم دون سن الخامسة عشرة.
أمّا في الأردن فيوجد حوالي 60 ألف طفل سوري نصفهم يعتبر معيلاً لعائلته حسب منظمة اليونسيف، وفي تركيا قرابة 133 ألف طفل أقل من سن الثامنة عشرة يعملون في مهنٍ مختلفة.
أعطيتهنّ ثمن علب المحارم ورحن يركضن مسرعاتٍ نحو سيّدةٍ في الجوار يعرضن عليها بضاعتهن الثمينة, علّهن يرجعن للبيت بما يكفي قوت يوم العائلة التي هدّمت الحرب عمودها قبل أن تهدم جدران بيتها.
بقلم: محمد المعري
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع