تساقطت ثورات الربيع العربي واحدة تلو الأخرى بعد سلسلة ثورات خريفية مضادة قادتها الأنظمة السابقة التي ثار عليها الشعب، لكنها وإن اختفت من الواجهة إلا أنها بقيت ممسكة بمفاصل القوة والقرار في الأمن والجيش والتي تسمى اصطلاحا الدولة العميقة.
تهافتت الثورات العربية بعد أن تنفس أبناؤها نسيم الحرية وعرفوا الانتخابات الحرة غير المزورة التي لا يظهر فيها الرقم 99%، وخرجوا بالمظاهرات التي لا تقمع بالرصاص والسحل بالشوارع وشاهدوا إعلاماً ينتقد بشفافية كل المسؤولين بلا قيد أو تغييب أو تطبيل لحذاء الحاكم والمسؤول، لكن للأسف بعد عشر سنوات من المخاض الأليم سقطت آخر قلاع هذا الربيع في تونس بانقلاب قيس سعيد بعد أن أطلق عليها بقراراته رصاصة الرحمة وبذلك عادت كل الشعوب الى حظيرة طاعة الحكام.
الرئيس التونسي الذي جاءت به الديمقراطية الى سدة الحكم ينقلب عليها ويجمد البرلمان ويقيل الحكومة ويستأثر بكل صلاحياتها لنفسه بمساعدة الجيش الذي انتشر بالعاصمة واغلق البرلمان ومنع الحكومة من ممارسة نشاطها.
قيس سعيد نفى صفة الانقلاب وقال إن قراراته تأتي ضمن المادة 80 من الدستور التي تتعلق بالإجراءات الاستثنائية فهو على حد قوله لم يحل البرلمان بل جمد نشاطه ورفع الحصانة عن أعضاءه فقط، رغم أن المادة 80 تنص على أن مدة الإجراءات الاستثنائية هي شهر واحد ينظر البرلمان في تمديدها فأين هو البرلمان حينها ؟!!..
إنها حيلة انقلابية كما حدث في مصر بالانقلاب على نتائج صندوق الانتخاب عبر توقيع ورقة تفويض، في سابقة هي الأولى من نوعها، صورة منسوخة مكررة من انقلاب السيسي بلا إبداع أو تغيير وكأن الممثلين أنفسهم يؤدونها بغير خروج عن النص.
تبدأ القصة بتحضير للأجواء من خلال بعض مهرجي الإعلام والسياسيين أمثال أحمد موسى وتوفيق عكاشة وعبير موسي للتشويش وإثارة اللغط على مشاكل اقتصادية ومطالب حياتية محقة.
ثم القفز بسرعة إلى نتيجة أن الديمقراطية بما أفرزته من تيارات متناقضة هي السبب وأن الخلل في السياسة يبرر الانقلاب ثم البحث عن رجل دولة على علاقة وطيدة مع العسكر، سواء بواجهة عسكرية كالسيسي الذي خلع بدلته العسكرية فيما بعد أو كقيس سعيد المدني المدعوم عسكرياً من الجيش ليكون هو المنقذ لهذا المشهد العبثي.
القرارات الانقلابية التي قام بها قيس سعيد جاءت بعد زيارة غريبة قام بها لمصر في الشهر الرابع حيث التقى السيسي وكان هدف الزيارة كما أعلن (إرساء رؤى وتصورات جديدة تعزز مسار التعاون المتميز القائم بين تونس ومصر).
هذه الرؤى انكشفت بعد أشهر قليلة وكانت لنقل التجربة الانقلابية المصرية الى تونس.
التواطؤ الدولي الغربي واضح أيضاً ومكرر كما التجربة المصرية، فالأمم المتحدة وعلى لسان نائب رئيس متحدثها رفض تسمية ما حدث بالانقلاب داعياً الى ضبط النفس والامتناع عن العنف، بينما تراوحت مواقف الدول بين الترقب والدعوة للحوار وتجنب العنف، فالولايات المتحدة أوضحت “قلقها” من التطورات في تونس وفرنسة أعربت عن أملها بعودة “المؤسسات الدستورية إلى عملها الطبيعي” وألمانيا “قلقة للغاية” مما جرى لكن “لا تود الحديث عن انقلاب” وروسيا تراقب التطورات.
انقلاب تونس خريف عربي ستعاني منه الشعوب لعقود قادمة فساد وإرهاب وتخلف واستبداد لكنه سيكون طوق نجاة لأنظمة عربية مستبدة كانت تخشى من وصول الربيع إليها.
محمد مهنا
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع