قبل أسابيع قليلة نشرت مجموعة من المعارضين السوريين ورقة في “نقد الثورة ولتصحيح مسارها”، تعرضت للكم الكبير من الأوهام التي عُمّمت وأسهمت في وضع الثورة والشعب السوريين أمام منزلقات خطيرة. قد تكون هذه المجموعة لازالت تتعمّق في دراسة نقدها للثورة وللثوار وقد تكون اكتفت بهذا القدر، لكننا لم نلحظ لها أي نشاط مذاك. وإذا كان كشف الأوهام، التي كانت مكشوفة دائما ومنذ إطلاقها، يعد إنجازا، فإن الإنجاز الحقيقي يتوقف على الموقف السياسي الذي يجب أن ينبني على هذا الكشف، والذي يجب أن يساوي بين بيع الأوهام للشعب السوري، وبين الحرب على ثورته، وعلى الأخص حينما لا نزال نرى من يستمر في هذه التجارة حتى اللحظة.
فمنذ الأسابيع الأولى للثورة السورية، ومع الرد الدموي لأجهزة النظام على انتفاضات القرى والمدن، أخذت بعض القوى المعارضة تطالب بالتدخل الخارجي العاجل للمساعدة في إسقاط النظام وحماية الشعب السوري من دمويته، وفي ظنّها أن قوى الهيمنة ستتطوع عفوا أو بعد استجداء، لتخليصها من بشار الأسد وتنصيبها في السلطة على غرار ما فعل الأميركان في العراق، أو على الأقل، القضاء على بشار ومجموعته كما حدث في ليبيا مع معمر القذافي. إن التمسك بهذا الوهم من قبل هؤلاء حتى وقت قريب، وبرغم المواقف الرخوة التي صدرت عمّا كان يسمى بـ”أصدقاء الشعب السوري” بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة، جاء نتيجة جهلهم لماهية الثورة وللموقف الحقيقي لأركان النظامين العالمي والإقليمي منها ومن كل ثورة.
لم تُضِع العصابات الأسدية الوقت، فبادرت إلى التنكيل والاعتقال ليطال ذلك كل من يُظنّ أنه يمكن أن يكون يوما مع الثورة. فامتلأت السجون بالمعتقلين، واستعين بالمدارس وبالملاعب الرياضية لتكون معتقلات يتم زج العشرات من الآلاف فيها من ناشطي التنسيقيات المحلية التي تشكلت في الأشهر القليلة الأولى، ثم تحولت العديد من المشافي إلى مراكز تعذيب يقتل فيها الناشطون والمشبوهون بأشد الطرق فظاعة ووحشية.
واليوم، إذ تنشر منظمة العفو الدولية تقريرها عن سجن صيدنايا حيث قتل شنقا في إعدامات جماعية أكثر من 13000 معتقل من المدنيين خلال أعوام الثورة، وتعتبر ذلك جريمة ضد الإنسانية، نلمس قلة الحيلة لدى المعارضة السورية التي تعرف، ولكنها تبدو غريبة عمّا يجري من جرائم، بحيث لا تعرف كيف تتصرف حيالها. هذا كان شأنها بعد مجزرة الكيماوي في الغوطة، وهذا كان شأنها بعد نشر صور “قيصر” عن مقتل أحد عشر ألف معتقل تحت التعذيب في أقبية الأسد، وهذا أيضا كان شأنها حيال كل المجازر المروعة التي لا تزال عصابات الأسد وحلفاؤها يمارسونها بحق الشعب السوري.
ثلاثة عشر ألف معتقل تم إعدامهم شنقا في سجن واحد من سجون الأسد النظامية، ما يشير إلى إعدام عشرات الآلاف على امتداد تلك السجون بنفس الطريقة، في حين أن مئات الآلاف من المفقودين والمعتقلين تم اختطافهم أو اعتقالهم في أماكن أخرى لدى الحواجز والفروع الأمنية والميليشيات المحلية والمستجلبة لا يُعرف عنهم شيئا. ما يعني أنّ المئات من آلاف الضحايا قتلهم النظام الأسدي بعد اعتقالهم، جميعهم مدنيون وليس بينهم سلفي أو إرهابي واحد. السلفيون والإرهابيون تم إطلاق سراحهم جميعا ومن نفس السجن صيدنايا، حيث تم تهيئتهم ليشكلوا فور خروجهم ما سمي بالنصرة وداعش وجيش الإسلام واحرار الشام، وسواها من الفصائل “الجهادية”.
كانت خطة النظام الدموي في سحق الثورة تقف على ساقين: سحق الناشطين وقادة وأعضاء التنسيقيات المحلية، وكل من يُظنُّ أنه قد ينضم إليها من جهة، وإطلاق الجهاديين ليمارسوا دورهم من جهة ثانية. وما إن خرج الجيش الحر إلى الضوء من أجل حماية المتظاهرين من شبيحة الأسد، حتى بادر المراهنون على الخارج بنشر أوهام جديدة حول “تحرير” المدن والقرى وتسليح الجيش الحر والفصائل المسلحة. هذه الفصائل تشكلت لتقوّض وجود الجيش الحر، ولتنزع عن الثورة السورية طابعها الشعبي وتضرب في صميم شعاراتها والأهداف التي انطلقت من أجلها.
وعلى الرغم من كل ذلك عمم المعارضون وهم الرهان على الفصائل الجهادية وتغاضوا عن جرائمها بحق الجيش الحر وبحق الناشطين الثوريين والإعلاميين والإغاثيين وبحق المدنيين كذلك، ولا يزالون يراهنون حتى على جبهة النصرة التي ابتلعت فصائل الجيش الحر ونكلت بالأحرار.
لم تتأخر مافيا الملالي في طهران في دعم النظام الأسدي فأوعزت لحزب الله بدعمه بالآلاف من الرجال. ثم أمرت الميليشيات العراقية التابعة بذلك. من جهتها قامت المافيا المالكية في بغداد بتهريب مئات الإرهابيين من سجن أبوغريب إلى سوريا ليلتحقوا بداعش. كل ذلك كان بضوء أخضر من النظام الدولي الذي لا يستطيع تحمل وحدة شعب من أجل التحرر، وإصرارَ ثورة على تحقيق أبسط أهدافها.
كل ذلك لتسحق الثورة السورية بين فكي حرب مذهبية: ميليشيات شيعية تدعمها إيران في مواجهة السلفيات الجهادية المدعومة من الرجعيات والإخوان والمخترقة مخابراتيا من عدة جهات، بما في ذلك داعش، التي تشاركَ الأسد والمالكي ومن ورائهما مافيا الملالي وكذلك أجهزة استخبارات العالم في صنعه ومدِّه بالسلاح والمال بحدود تبقيه تحت السيطرة.
ما نشر عن سجن صيدنايا وما سبق أن نشره “قيصر” لا يتجاوز 1 بالمئة من جرائم الأسد وعصاباته والداعمين. فكل ميليشيا لها معتقلاتها وضحاياها. اسألوا اللاجئين الذين نجوا صدفة. اسألوا فلاحي الأرياف عن الأودية التي استخدمتها عصابات الأسد محارق لجثث ضحايا المعتقلات. كل ذلك تحت نظر وسمع أركان النظام العالمي الذي لم يبخل في التغطية على جرائم الأسد من خلال إقامة تحالف دولي للحرب على داعش، فيما يواصل الأسد ارتكاب مجازره.
توقفوا عن بيع الأوهام للشعب السوري. فروسيا فلاديمير بوتين لم تكن يوما ولن تكون إلا الصورة المكبّرة عن المافيا الأسدية. لن تكون محايدة ولن تتخلى عن عصابة منحتها السيادة على سوريا لمجرد أن تبقيها واجهة للحكم. توقفوا عن بيع الأوهام للشعب السوري، فالنظام العالمي الذي أباح لعصابة الأسد ولحلفائها المأجورين أن يزهقوا مئات الآلاف من الأرواح البريئة التي حلمت بالحرية ذات آذار، لن يحاسب مجرمي صيدنايا أو الغوطة أو سواهما.
ما نخشاه أن يكون نشر مشاهد فظاعات الأسد في حق الشعب السوري، والتي لن يحاسب عليها اليوم، لا أكثر من مسعى إضافي لتخويف الشعوب من مآلات الثورة. فهل يقولون لنا “هذا بعض مما فعله الأسد بشعبه، وها هو يستمر ويعاد تأهيل نظامه ويحاوره الجميع. فويل بعد اليوم لشعب يثور على جلاديه”. نظام عالمي متواطئ لن يحاسب العصابة الأسدية وحلفاءها إلا من باب المساومة والابتزاز. هذا هو حال المافيات.
العرب اللندنية