هل من إمكانية لتوقع كيفية إنتهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي يبدو أنها ستطول كثيراً. يوحي الوضع الحالي، والتصريحات الرسمية، للمسؤولين الروس، أنهم رغم إنهاك جيشهم وخسائره الكبيرة، مصرون على الاستمرار حتى ولو اضطروا إلى استعمال الوسائل النووية، وما تحمل من نتائج كارثية على الإنسانية جمعاء وكوكب الأرض.وفق جريدة القدس العربي
كيف لنا في هذه الغابة الشائكة، من الاحتمالات المتناقضة، أن نتوقع المستقبل، ولو القريب منه. هل الغرب على استعداد لدعم أوكرانيا إلى ما لا نهاية، وهل الصين ستبقى على موقفها المتفرج، البعيد حقيقة عن التحالف مع روسيا. لا نرى حتى اللحظة، إلا زيارات رؤساء ومسؤولي الدول الغربية إلى كييف، وإعلان جزء كبير منهم، عن النية لإيقاف بوتين وفرض الهزيمة الكاملة عليه. هل هذا حقاً موقف استراتيجي، أم تكتيكي، في انتظار عودة الخطاب الروسي إلى نبرة أقل حدية. ما أظنه شخصياً مربط الفرس، في هذه التوقعات، هو تحديد طبيعة النظام الروسي، فهي من سيُحدد مدى استعداد الجيش الروسي، السير بالحرب رغم الصعاب أو التوقف.
الأنظمة السياسية المستبدة، والتي ينتمي إليها بوتين، (رغم انتخاباته المشوهة، حيث لا وجود لأي معارض) ليس لها جميعا نفس اللون. هناك على الأقل ثلاثة أنواع؛ الأول ذلك الذي يتبع مبدأ العقد الاجتماعي، على طريقة توماس هوبز. أي تخلي الناس عن حريتهم بإرادتهم لصالح النظام المُستبد، مقابل تأمين هذا النظام لهم الأمن والسلام والازدهار. هدفه الأساسي، إنهاء الصراعات الداخلية. هذا النموذج ينطبق على الصين، فهو ينطلق دائماً من مصلحة الشعب والدولة الصينية، من منظار المستولين على السلطة. فرغم مذابح تينن من، عام 1989، وقمع المعارضة، إلا أن الصين تؤمن لمواطنيها السلم والأمن والتقدم المستمر.
النموذج الثاني، هو الأنظمة العقائدية، وهي شديدة الخطورة، لأنها لا تبحث عن حماية الدولة والشعب وتأمين الحياة الكريمة، وإنما إلى انتصار فكر عقائدي معين. مثال ذلك الاتحاد السوفييتي سابقاً، أو كمبوديا بول بوت، أو حديثاً، الأنظمة الدينية كما نرى في إيران أو أفغانستان. المهم هو تطبيق ما يظنونه أفكار ماركس هنا، أو الشريعة هناك، رغم كل ما تؤدي إلى تناقض مع مصالح الشعب بالأمن والسلام والحياة الكريمة.
النموذج الثالث، هو ذلك النظام المافيوي، المبني على استيلاء مجموعة من أصحاب النفوذ على السلطة، لصالحهم الخاص فقط، دون أي اعتبار لأي عقيدة أو أي مصلحة وطنية. هدفهم الوحيد هو الاستحواذ على موقع القرار، وما الدولة والشعب، إلا وسائل لتحقيق هذه المصلحة، دون أي اعتبار للأمن والسلم الداخلي، أو ازدهار البلاد وتطورها. هذا للأسف، يُعبر عن الأوضاع في كثير من الدول العربية، خصوصاً ذات الثروات المعدنية أو النفطية، والتي لا يهم السلطة فيها، إلا سرقة هذه الثروات لصالح المسؤولين فقط. وهو ما يُؤدي إلى إفقار المواطن وإضعاف الوطن، مقابل زيادة غناء أهل السلطة وعملائها.
من هذا المنظار، كيف لنا أن نصنف نظام بوتين. هل هو عقائدي (كما كان مثلاً هتلر أو ستالين)؟. أم ينتمي إلى عائلة الدول ذات العقود الاجتماعية، حتى ولو كانت على طريقة هوبز.
الناظر لبوتين ومن أين أتى، وما فعل منذ وصوله للحكم، بعد أن ورثه عن يلتسن، مقابل صفقة حماية له. يُلاحظ انتماء هذا الأخير، إلى العائلة الثالثة، أي الأنظمة المافاوية. هو لا يملك عقيدة سياسية معينة، ينتمي لأقصى اليمين وأقصى اليسار بنفس الوقت، وهو ما يُفسر دعم هؤلاء له في كل دول العالم، وتسميته بالرفيق عند بعضهم، رغم احتضانه من كل أحزاب وحكام اليمين المتطرف في العالم، كما نرى مع ترامب وبولسنارو ومارين لوبين. هو لم يؤمن للشعب الروسي الحد الأدنى من الحياة الكريمة، عندما نرى مدى تراجع القوة الشرائية للمواطن، وتخلف البلاد على كافة المستويات، بما فيها التغطية الصحية، والصناعة، رغم الدخل الهائل الناتج عن بيع الغاز والنفط. فكل الصناعة التي ورثها عن الاتحاد السوفييتي، موجهة فقط نحو السلاح. هي إذاً دولة ريعية بامتياز، هذا الريع كما نرى، يذهب إلى طبقة الأوليغارك الروسية، وليس إلى جيب المواطن.
محبو وداعمو بوتين، من مثقفي الأحزاب اليسارية العربية، أظهروا بمواقفهم الغريبة، مدى إصابتهم بالعمى السياسي. وأضاعوا تلك الفرصة للعودة من جديد، لصف الشعوب المناضلة من أجل طرد المُحتل مهما كان وفي أي مكان كان
لو عدنا من جديد إلى توقع نتائج الحرب، فإننا نرى، أن الأنظمة العقائدية مستعدة للذهاب إلى الهاوية والدمار، كما فعل هتلر في زمنه، وكما تفعل إيران وأفغانستان حالياً. بينما النظام المبني على العقد الاجتماعي، على الطريقة الصينية، يبقى عقلانياً، لا يمكنه تدمير البلاد والعباد، فقط لإرضاء شخص أو مجموعة من المتسلطين. في المقابل، محرك النظام المافيوي الأساسي هو البقاء في السلطة، مهما كان الثمن، وكل ما يفعله يصب في هذا الاتجاه. الحرب على أوكرانيا، تهدف أساساً، إلى إبعاد خطر وجود ديمقراطية في جوار روسيا، قد تكون مصدر عدوى لشعبها، حتى أن بوتين فعل نفس الشيء في دول غير مجاورة بعيدة، مثل سوريا. كل التدخلات الروسية في إفريقيا، هي أيضاً بنفس الهدف، أي دعم الأنظمة المافياوية المشابهة وإبعاد خطر الديمقراطية، هو ما يُسميه أصدقاء بوتين «إنهاء السيطرة الغربية، وإقامة نظام متعدد الأقطاب» بينما في الحقيقة، الشيء لا علاقة له لا في الغرب ولا في الأقطاب. الهدف هو فقط إحكام السيطرة على روسيا وشعبها.
ماذا يمكن لبوتين عمله الآن، وهو يواجه ما لم يتوقعه في مشروعه الأوكراني، والذي حطم صمود شعبها، أحلامه الوردية. هل سيتصرف كدولة مثل الصين، أي البحث عن مصلحة الشعب الروسي. هذا ليس في وارد وفكر هكذا النظام، أم سيذهب للنهاية، وتطبيق منطق (علي وعلى أعدائي يا رب) كالأنظمة العقائدية، هذا أيضاً ليس ممكناً، فهو لا يُدافع عن عقيدة معينة. وليس عداؤه للغرب إلا حجة واهية يُقدمها فقط للشعب الروسي، ليبقى مكبل اليدين. كل ناهبي ثروات روسيا، قطط بوتين السمينة، لا يستثمرون أموالهم المنهوبة إلا في البنوك الغربية والأمريكية خصوصاً، وليس في الاقتصاد الروسي.
ما أتوقعه أن يدخل بوتين في مربع النظام العراقي لصدام حسين، أي إنهاء الحرب، دون رفع العقوبات كاملة، ودون أي انتصار لبوتين، لكن مقابل ألا يعمل الغرب على إسقاطه من السلطة؛ هدفه الوحيد. هم أصلاً غير راغبين في ذلك، فقد فشلت هذه السياسة في مناطق أخرى في العالم. ولا أظن أنهم مهتمون حقاً، في تغيير شكل النظام الروسي. تاريخ الغرب الحديث، يُظهر أنهم لم يقدموا أي دعم حقيقي للمعارضة الروسية، بل العكس، تعاملوا مع بوتين كشريك موثوق به، وسكتوا عن كل جرائمه السابقة، داخل وخارج روسيا.
بعد انتهاء الحرب، ستبقى روسيا محاصرة بحجة جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان في أوكرانيا، واحتلال شبه جزيرة القرم، ولكن سيبقى نظام بوتين جاثماً على صدور الروس. الحل الوحيد لهذه المصيدة، التي تقع فيها روسيا، هو أن يتحرك أبناؤها، للتخلص من العصابة التي تحكمهم منذ أكثر من عشرين عاماً، ولم تؤد، كما قالت الصحافية الروسية المعارضة آنا بوليتكوفسكايا والتي اغتالها بوتين عام 2006، إلا إلى الهاوية السحيقة.
دول الغرب، ستضم أوكرانيا لها، وسيتوسع ويقوى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، عكس ما يوهم به بوتين شعبه، وستعود الحياة العادية للعالم، ولن يجد بوتين حلفاءً يحمونه ويدعمونه، فحجم روسيا الاقتصادي لا يسمح بذلك. القوة النووية، لا يمكنها تغيير شيء. هي لا تصلح إلا إلى الإحكام على الشعب الروسي والانفراد به، كما يفعل كيم جونج اون في كوريا الشمالية.
محبو وداعمو بوتين، من مثقفي الأحزاب اليسارية العربية، أظهروا بمواقفهم الغريبة، مدى إصابتهم بالعمى السياسي.
وأضاعوا تلك الفرصة للعودة من جديد، لصف الشعوب المناضلة من أجل طرد المُحتل مهما كان وفي أي مكان كان. خصوصاً وأننا رأينا ونرى دائماً، ما يفعل المُحتل الروسي الشرس، في مدن عربية عزيزة على قلوبنا جميعاً مثل حلب. وما أظهره من عنف لا حدود له ضد السكان المدنيين العُزل في سوريا والشيشان.
هل هكذا نظام ممكن أن يكون موضع دعمنا، وهو يدمر أعز ما نملك. سينتصر الشعب الأوكراني الشجاع لا محالة، كما فعلت قبله كل الشعوب الشجاعة، من الجزائر إلى فيتنام، وسيشكل ذلك بالنسبة لنا عودة للأمل من جديد في سوريا ومن بعدها شعلة الربيع العربي.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع