كانت سوريا من الدول التي تتغنى بمجانية التعليم بمختلف مراحله، فقد كانت أنظمة التعليم فيها لا تميز بين غني وفقير، أما حالياً فالأمر تغير بشكل كلّي، فلم يعد العلم فعلياً إلا للمقتدر مادياً، أما الفقراء فليس بوسعهم أن يرتقوا على سلّم التعليم للمستوى الذي يطمحون له بعد أن دخلت على الخط معطيات جديدة.
ثلاث طبقات واستغلال فاضح
لم يعد ممكناً تجاهل آثار الحرب في سوريا على جميع المستويات والقطاعات ومن بينها التعليم، يقول باحث اجتماعي يعيش في مناطق النظام رفض الكشف عن هويته “إن تكاليف التعليم في سوريا أعادت فرز الطبقات الاجتماعية، فأصبح هناك ثلاث طبقات: أغنياء وفقراء وطبقة أخرى معدومة، وهي الغالبة”.
وطبقاً لإمكاناتهم فمن الطبيعي أن يتوجه الفقراء إلى المدارس العامة الحكومية، لكن حال هذه المدارس تدهور ولم تعد تؤدي الغرض خصوصاً وأن حركة النزوح التي حدثت خلال العامين الماضيين من المناطق الساخنة إلى المناطق الآمنة أدت إلى الاكتظاظ في معظم الصفوف لتضمّ أكثر من 60 طالباً، أي ضعفي العدد المحدد في القانون، كما أن المدارس العامة تفتقد حالياً للتعليم ذي الجودة المرجوة رغم كل ما يقال عن تجديد المناهج التعليمية وتبديليها، فالمعلمون حالياً لا يفهمون هذه المناهج ويعانون من تدريسها وتلقينها للطلاب، بل إن هناك الكثير من المعلمين باتوا يستغلون الطلاب، فلا يوصلون المعلومة بشكل كامل ليدفعوهم للتسجيل في دورات التقوية ليتقاضوا منهم مبالغ مالية لقاء ذلك، وهو ما بات يحدث على نطاق واسع ويمكن أن نستشفه من مستوى الطلاب ومدى اكتسابهم، أي أننا أصبحنا أمام عملية استغلال للطالب، فإما أن تدفع للتسجيل في الدورة وإما “فالمعلومة لن تصلك كاملة ولن تفهم منهاجك الجديد”.
كما أن المدارس العامة التي يقال عنها مجانية أصبحت هي الأخرى تكلف الأسرة الكثير، ففي كل أسبوع يخرجون على الطالب برسم جديد، فتارة تعاون ونشاط، وتارة رسم نظافة وتارة أخرى رسم صيانة وتجديد وهكذا، عدا عن سعر الكتب التي يدفعها الطلاب والتي وصل بعضها إلى أكثر من 60 ألف ليرة في المرحلة الثانوية.
ولفت الباحث الاجتماعي إلى أنه نتيجة هذه التكاليف الباهظة، فإن الطالب يخرج من هذه المدارس دون أن يحصّل على أكثر من 60% فقط من معلومات منهاجه، وعليه أن يفهم بنفسه الـ40% الباقية أو أن يسجل في دورات مدفوعة بسعر مرتفع.
أما الخيار الثاني فهو المدارس الخاصة التي لا يستطيع ذوو الدخل المحدود التسجيل فيها نتيجة رسومها المرتفعة، فبعض هذه المدارس تتقاضى رسوماً تتعدى 500 ألف ليرة للطالب الواحد في المرحلة الأساسية، وأكثر من 700 ألف ليرة للطالب في المرحلة الإعدادية والثانوية.
الخبز بديل عن العلم
ولا يتوقف الأمر عند الفقراء الذين تضيق خياراتهم في اكتساب العلم فهناك أيضاً فئة لا خيارات لديها كونها مُعدمة، وهي تتألف من الأطفال والطلاب الذين تركوا المدرسة والتعليم، وأغلبهم من الفارين من ويلات الحرب الذين هجروا المناطق التي تشهد معارك مستمرة، ودفعهم العوز إلى البحث عن عمل لسد رمقهم ومساعدة أسرهم في العيش وإن كان هناك من ينكر ذلك، فعليه أن يذهب إلى أي فرن خبز، وسيجد أن معظم من يبيعون الخبز قريباً منه هم من الأطفال الذين لم يبلغوا السن القانوني 18 عاماً، ولدى سؤال هؤلاء سيتضح أن معظمهم كانوا يدرسون وأنهم انقطعوا عن المدارس والعلم نظراً للفقر.
الباحث الذي تحدث لـ صدى الشام لفت إلى أن الوضع التعليمي في سورية في خطر محدق، “فحتى تعليم الصغار بمرحلة رياض الأطفال أصبح مكلفاً للأسر، فأقل روضة أطفال تتقاضى 70 ألف ليرة للطفل الواحد، وهناك روضات بلغ رسمها أكثر من 200 ألف ليرة، لنصل إلى نتيجة أن التعليم لم يعد يناسب دخل الأسر، وأن تكاليفه قسمت المجتمع السوري إلى مدارس للأغنياء وأخرى للفقراء، أي تعليم ذو جودة وآخر تحصيل حاصل”.
التعليم ” المتعالي” !؟
ونوه الباحث إلى أن ما قامت به وزارة التعليم العالي في حكومة نظام الأسد مؤخراً من رفع رسوم التعليم في الجامعات العامة هو قرار خاطئ من شأنه أن يجعل الشباب السوري يَهجُر التعليم بعد أن رفعت الوزارة رسوم التعليم المفتوح والموازي ورسم تعديل الشهادات والمصادقة عليها وحتى رسوم الاعتراض والتقدم لامتحانات اللغة الأجنبية، وبنسب تراوحت ما بين 100% إلى 200%، مع الإشارة إلى أن وزارة التعليم العالي تدرك معاناة الطلاب المادية وأن الطالب في سوريا يذهب مشياً على أقدامه إلى الجامعة لكي يوفر أجرة “السرفيس”، وليس خافياً عليها أن الكثير من الطلاب مستأجِرون، ويترتب عليهم نفقات شهرية كبيرة، وأن معظم هؤلاء من ذوي الدخل المحدود، ورغم ذلك فهي تتعامى عن كل هذه المعاناة وتقوم برفع الرسوم بشكل غير منطقي بحجة ارتفاع سعر “ماعون الورق!”.
ونوه الباحث إلى أن هذا الأمر من شأنه أن يشجع ما تبقى من الشباب في الجامعات على الهجرة والدراسة خارج سوريا، فبعد أن أصبحت عوامل الاستقرار غير موجودة وشروط الحياة قاسية من غذاء ودواء ونقل و كهرباء جاءت صعوبات التعليم لتنهي أي رغبة للشباب السوري بالبقاء في بلدهم.
وأكد الباحث أن “وزارة التربية تعمل حالياً على تغيير المناهج، وهذا خطأ كبير، فهذا التغيير يحتاج إلى بيئة مستقرة للطالب أولاً وللمعلم ثانياً، فالمنهاج الحالي الذي تم تغييره منذ نحو 3 أعوام إلى هذه اللحظة غير مفهوم لدى الكثير من المدرسين، حتى أن معظم الأسر تشتكي من صعوبته، فكيف للوزارة أن تقوم بخطوة تعديل المناهج في ظل استمرار الحرب، وفي ظل الفشل السابق لتغييره؟..هل ترغب بإعادة التجربة الفاشلة في تغيير المناهج؟..وما هي الدواعي لهذه الخطوة”؟. يتساءل الباحث
رفع الرسوم بلا جودة
خبير في الشؤون الاقتصادية لفت إلى أن الأسرة تحتاج ما لا يقل عن 12 ألف ليرة شهرياً كتكاليف تعليم، وخاصة مع ارتفاع الرسوم مؤخراً، مشيراً إلى أنه رغم رفع رسوم التعليم إلا أن جودته بقيت على حالها، ما يستدعي من الطالب الإعتماد على الدروس الخصوصية ذات الأسعار العالية، بالإضافة إلى تكاليف شراء المحاضرات بأسعار ليست قليلة، والتي باتت شكلاً من أشكال التجارة في ساحات الجامعات.
ولفت إلى أن دمشق تعتبر الأعلى تكلفة في التعليم، لتأتي حمص في المرتبة الثانية فحلب في المرتبة الثالثة، فدرعا بالمرتبة الرابعة، وهذا الترتيب جاء “وفق تكاليف التعليم في المدارس الخاصة، التي أصبحت مصنفة بالنجوم كالمطاعم”.
تكاليف طالبَين اثنين براتب كامل
وفي وقتٍ تزداد فيه الأعباء الاقتصادية على السوريين في الداخل، ومع انخفاض الدخل وارتفع معدّل الإنفاق، باتت تكاليف طالبين اثنين يدرسان ضمن العائلة الواحدة يُعادل راتب موظف لشهرٍ كامل، ولا سيما أن متوسط دخل المواطن السوري يتراوح بين 30 – 60 ألف ليرة في أحسن الأوضاع، أي أن هذا الدخل من الممكن أن يذهب بمعظمه لتكاليف التدريس.
هذا الواقع دفع بمعظم السوريين إلى الزج بأولادهم في أعمال وحرف يتم ممارستها في فترةٍ مسائية بعد دوامهم في المدارس، أملاً في كسب ما يُمكن كسبه من تكاليف دراستهم.
ويؤدّي ذلك إلى انخفاض مستوى التحصيل العلمي، بسبب ضيق الوقت بالنسبة للطالب بين العمل والدراسة، إضافةً إلى الإنهاك الجسدي والنفسي الذي قد يعانيه جراء العمل في مهنٍ شاقّة.
مؤشر خطير
ونوه الخبير الاقتصادي، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، في تصريح خاص إلى أن أكثر من 2.5 مليون طفل هم خارج المدارس وفقاً لمنظمة اليونيسيف، أي أن جيلاً كاملاً أصبح خارج دائرة التعليم، وهذا مؤشر خطير، لأن هؤلاء الأطفال عندما يكبرون سيكونون أميّين، وسيكوّنون 2.5 مليون أسرة، أي مجتمعاً بأكمله، “فماذا نتوقع من مجتمع يحوي هذا العدد من الأسر غير المتعلمة؟”.
وأكد الخبير أن السبب الأول لهذا الأمر “يعود لمفرزات الحرب، ولكن بنفس الوقت لا يمكن أن نجعل من الحرب شماعة نسير بها لتبرير التقصير في أداء الواجب، فوزارة التربية بحكومة النظام مهمِلة، وزاد إهمالها خلال الأعوام الماضية”، فهي لم تسعى من جهة لإعادة الأطفال المحرومين أو نسبة منهم إلى التعليم، ومن ناحية ثانية لم تهيئ الظروف المناسبة لبقية الطلاب للاستمرار بالعملية التعليمية”.
وفضلاً عن ذلك فإن وزارة الشؤون الاجتماعية تركت الأطفال المحرومين من التعليم، والذين تركوا مدارسهم لمساعدة أسرهم، لمصيرهم بدلاً من إعادة تأهيلهم، ومساعدة الأسر التي تملك أكثر من 3 طلاب والتي بات إرسال كافة أبنائها إلى المدارس والجامعات ضرباً من الرفاهية، على حد قول الخبير الاقتصادي.
صدى الشام