إحدى أكثر وسائل التجنيد في “داعش” نجاعة واستعمالاً هي الإعلان عن افتتاحه زمناً وولاية للقتال و”الجهاد”. تفجيرات كابول هي إعلان “داعش” أن زمناً لـ”الجهاد” قد افتتح. زمن قررت واشنطن أنها خارجه، وملأت الفراغ “طالبان” ببشتونها وعشائرها وأعرافها وقوانينها، وكل هذا يمثل دعوة شديدة الإغراء لجماعة مثل “داعش” لتفتتح زمناً، قد لا يكون بالضرورة موازياً أو مطابقاً لزمنها العراقي الذي كانت باشرته عام 2014، في ظل انكفاء الأميركيين في حينها وتصدر القوى الشيعية التجربة العراقية الدموية، لكنه قد لا يقل دموية عنه.
وتجربتا “داعش” في العراق وفي أفغانستان، وإن انطوتا على ضعف في التشابه، إلا أن ثمة ما يمكن القياس عليه بما أننا حيال تنظيم واحد تولى في الأولى وباشر في الثانية استثماراً في عناصر الانفجار.
وهنا علينا أن نعود إلى تفجيرات كابول بوصفها دعوة موازية إلى الانخراط في المجزرة. جاذبية التنظيم تكمن في “فعاليته” على ما يردد أسراه للمحققين. كلما نفذ عمليات وتفجيرات، ارتفع منسوب الافتتان به. هذا ما سبق أن خبرناه في العراق وفي سوريا. والافتتان ليس عراقياً أو سورياً، بل هو كوني، وهو ما دفع رياضيين فرنسيين وموسيقيين بريطانيين ومسلمين أوروبيين للالتحاق به في دولة الخلافة، وهذا ما دفعه هو، أي “داعش” إلى الاستثمار بإنتاجاته البصرية التي تفنن فيها في عرض الفظائع التي ارتكبها كوسيلة جذب لمن يخاطبهم القتل، وما أكثرهم في هذا العالم. فحين سئل صدام الجمل وهو أحد أمراء التنظيم الذين أسرتهم السلطات العراقية، لماذا نشر صوراً لنفسه وهو يحمل رؤوساً مقطوعة، أجاب أن التنظيم طلب منه التقاط الصور كي يرسلها إلى خلاياه في الخارج!
وهنا تلوح وظيفة أخرى للتفجير والقتل المصور، وهي الردع وبث الرعب في الناس، ويتحول الرعب بدوره إلى طاقة تجنيدية تستقطب كل راغب بالانتقام أو بتسجيل حضوره في هذا المشهد العنيف، لا سيما في ظل كل عناصر الإغراء هذه.
في هذه اللحظة، يصح البناء على تجربة التنظيم في العراق لاستشراف مستقبله في أفغانستان. تفجيرات كابول هي الإعلان الأول عن استئناف الزمن العراقي والسوري لكن في أفغانستان. وفي هذه اللحظة، تصاب الصدوع الاجتماعية والطائفية والعشائرية بارتعاشة مؤداها أن ثمة فرصة للانقضاض، وتجد الأمراض لنفسها قنوات تصريف جديدة. وإذا كان الشيعة هم هدف الارتعاشة في العراق في ظل الحرب المذهبية في ذلك البلد، فإن “طالبان” لا تقل عنهم إغراء لمن ركبه الصدع. بيئة عشائرية متنازعة لألف سبب وسبب، وشيوخ “الجهاد” على طرفي الانقسام جاهزون لمدهما بالفتاوى على نحو ما حصل بين تنظيم الدولة و”القاعدة” في العراق وسوريا. وانقسامات عشائرية وقومية وسلطة جديدة وضعيفة.
تفجيرات كابول هي إعلان “داعش” أن زمناً لـ”الجهاد” قد افتتح
دولة “طالبان” في أفغانستان لن تكون سلطة مركزية قوية، فثمة مساحات هائلة للتحرك في الجغرافيا الصعبة وفي الانقسامات العشائرية والقومية، خصوصاً إذا عرفنا أن “ولاية خرسان”، وهو الاسم الذي اختاره التنظيم لفرعه الأفغاني يضم قوميات أخرى كالطاجيك والأوزبك، ولهؤلاء امتدادات خارج أفغانستان، والأفغان منهم يشعرون بأن مجيء “طالبان” يعني تصدر البشتون على القوميات الأخرى.
المشهد شديد الإغراء لـ”داعش”، وفرص الاستثمار كبيرة، والشقاق الأفغاني يتغذى من عشرات المصادر، لكن أهمها هو الانسحاب الأميركي الذي سيدفع تنظيماً مثل “داعش” طليقاً في هذا البر العشائري الهائل.
وقياساً على تجاربنا مع التنظيم، تلوح منطقة قد تكون غير مفكر فيها لجهة قدرته على تجنيد أفغان. فالدولة التي انهارت في أفغانستان خلفت مجتمعاً كبيراً من أهل تجربة الحكم، هم اليوم أيتام يشعرون بانقلاب الأوضاع عليهم، وليس مشهد المحتشدين في مطار كابول سوى عينة صغيرة عنهم. ولطالما أجاد “داعش” الاستثمار بأيتام الأنظمة. في تونس مثلاً، يشكل أبناء بيئة نظام زين العابدين بن علي من الذين وضعتهم الثورة على هامشها، معظم من انخرط مع التنظيم من التونسيين.
تفجيرات كابول رسالة بالغة الدلالة ليس لـ”طالبان” وحسب، انما للعالم بأن احتمالات أن يستأنف “داعش” زمنه بعد انقطاع لسنوات، كبيرة ولن تكون أفغانستان مسرحه الوحيد، وهنا الأمر مختلف عن العراق، فإذا ما قرر العالم أن ينخرط بقتال “داعش” مجدداً، فهو هذه المرة سيفعلها إلى جانب “طالبان”، وهذا سيكون منتهى المفارقة! ومثلما خبرنا قتال الجيش الأميركي إلى جانب الخبراء الإيرانيين خلال معركة الموصل، قد نعاين مشهداً موازياً لقتال الجنود الأميركيين إلى جانب مقاتلي “طالبان” في أفغانستان… من يدري.
نقلا عن وكالة درج
رابط المادة:https://daraj.com/78552/
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع