بعد مرور أكثر من أسبوع على القمة الأفريقية الفرنسية التي احتضنتها العاصمة المالية باماكو، بحضور الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وعدد كبير من قادة الدول والحكومات الأفريقية، يعيش شمال مالي على وقع تصعيد أمني غير مسبوق.
فقد أعلن قائد مجموعة “غاتيا”، فهد آغ المحمود، الموالي للقوات الحكومية، مقتل 16 عنصراً أمنياً تابعاً لمجموعته قرب تين أساكو بمنطقة كيدال في شمال شرق البلاد. واتهمت المجموعة “عناصر تنسيقية حركات أزواد” (حركة التمرد السابقة التي يهيمن عليها الطوارق) بالوقوف وراء الهجوم. وتأتي هذه العملية بعد ثلاثة أيام فقط على عملية انتحارية في غاو، كبرى مدن الشمال، ضد معسكر لفصائل مسلحة موالية لحكومة باماكو ومكلفة بتسيير دوريات أمنية. وأسفر الاعتداء عن 77 قتيلاً وعشرات الجرحى معظمهم في حالة الخطر، وتبنته حركة المرابطون التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والتي يتزعمها الجزائري مختار بلمختار. واستهدفت هذه العملية الانتحارية، وهي الأكثر دموية في تاريخ مالي الحديث، معسكراً كان يتجمع فيه 600 مقاتل ينتمون لفصائل مسلحة وقّعت اتفاقية السلام في مالي.
واعتبر وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك آيرولت، العملية بمثابة رسالة سياسية واضحة من طرف المعارضين للسلام في مالي واستهدافاً مباشراً لجهود المصالحة الوطنية.
كما أن هذه العملية، التي قام بها انتحاري تمكن من ولوج المعسكر بسيارة مفخخة، هي رسالة تحد للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، لا سيما أن هولاند زار بنفسه غاو الأسبوع الماضي على هامش أعمال القمة الأفريقية الفرنسية، وتفقد القوة الفرنسية لمكافحة الجهاديين في إطار عملية “برخان”.
ويأتي هذا التصعيد الأمني ليبرهن على الصعوبة البالغة التي تواجه فرنسا والحكومة المالية وبعثة الأمم المتحدة في إعادة الأمن إلى شمال وشرق ووسط مالي. كما يظهر التصعيد مدى تنامي قدرات مجموعات المتمردين على زعزعة الاستقرار وتوجيه ضربات عسكرية موجعة، في منطقة تعاني من غياب أي سلطة للدولة المركزية، ولا تشهد قيام أي ترتيبات ملموسة للمرحلة الانتقالية التي رسمتها اتفاقية السلام الموقعة في الجزائر بين أطراف النزاع المالي في مايو/ أيار 2014 ويونيو/ حزيران 2015، والتي كان من المفترض أن تؤدي إلى عزل المتمردين والمقاتلين الجهاديين بصورة نهائية.
كما أن التدخل العسكري الفرنسي منذ عام 2013، والمتواصل حتى الساعة في إطار عملية “برخان”، والذي نجح في طرد المجموعات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة التي سيطرت على شمال مالي في مارس/ آذار وإبريل/ نيسان 2012، لم ينجح كلياً في استئصال الجماعات الجهادية، وإن حد من نشاطها. وكان المتحدث باسم الجيش الفرنسي، باتريك ستيغر، قد أكد أخيراً أن القوات الفرنسية قتلت أو أسرت 150 “عنصراً إرهابياً” في منطقة الساحل التي يقع الشمال المالي ضمنها. كما أشار إلى أنها صادرت أكثر من ستة أطنان من الذخائر والمتفجرات في 2016، إما بمفردها أو بالشراكة مع قوات أفريقية.
غير أن أرقام الجيش الفرنسي تعتم في الواقع على أرقام أخرى مضادة تؤكد أن عام 2016 سجل تصاعداً كبيراً في أعمال العنف في مالي، وبلغ ضعف تلك المسجلة في 2015. فقد أعلن المسؤول عن الفرع الأفريقي للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، فلوران غيل، الأسبوع الماضي، أن “أكثر من 385 هجوماً وقع في شمال ووسط مالي وأسفر عن مصرع 332 شخصاً، من بينهم 207 مدنيين”، من دون احتساب العمليتين الدمويتين الأخيرتين. وبالإضافة إلى هذه الهجمات، هناك تصاعد لافت لانتهاكات حقوق الإنسان، مثل عمليات الخطف والاحتجاز والتعذيب والسرقة باستعمال السلاح التي فاقت 630 حالة مسجلة.
وأقرّ هولاند بنفسه، خلال القمة الأفريقية الفرنسية الأخيرة، بالعجز العسكري الفرنسي في مالي حين قال: “أريد أن أؤكد أن فرنسا ستبقى دائماً الى جانب مالي في إطار عملية برخان حتى إنجاز عملية السلام، إلى أن تفرض الدولة المالية سلطتها على كل الأراضي المالية”. وحذر من أن القتال ضد الجهاديين المتطرفين والمتمردين “سيكون طويلاً، لأننا نواجه مجموعات إرهابية، خصوصاً منها تلك المسلحة والمصممة على زعزعة استقرار المنطقة برمتها”.
ويعزو مراقبون تصاعد أعمال العنف في مالي إلى تكاثر عمليات الانشقاق داخل حركات المتمردين، وتشكُّل مجموعات صغيرة مسلحة تقود هجماتها بشكل مستقل في صفوف الطوارق وفي صفوف الجهاديين المرتبطين سابقاً بتنظيم القاعدة، ومن أبرزهم “المرابطون” المسؤولة عن الهجمات الأكثر تنظيماً ودموية في العامين الأخيرين. كما أن الطبيعة الوعرة في شمال ووسط مالي توفر ملاذاً آمناً للمجموعات المسلحة التي تعتمد على بيئة إنسانية حاضنة في ظل تنامي عمليات تهريب السلاح والوقود وحتى البشر.
هناك أيضاً تفسير سياسي لهذا الفلتان الأمني الكبير، إذ يرى مراقبون أن الحكومة المركزية في باماكو، المتهمة بالفساد وانعدام الجدية في تطبيق اتفاق السلام والمصالحة الوطنية، تتحمل مسؤوليته. وتتهم المعارضة المالية حكومة الرئيس إبراهيم بوكر كيتا بالتقصير في تطبيق اتفاقية السلام والافتقار إلى رؤية واضحة لمسلسل المصالحة. وفي السياق، يقول الوزير المالي السابق، المرشح الخاسر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، صومايلا سيسي: “نحن لا نتوفر على جيش مستعد للقتال ولا على خطة دستورية واضحة، والدولة تخلت عن سكان شمال مالي، وحتى الآن ليس هناك أي تطبيق عملي لاتفاقية السلام التي تم التوقيع عليها على مضض في الجزائر وبات انعدام الأمن يتمدد إلى وسط وجنوب البلاد”.
صدى الشام