بعد سبعة أشهر تماماً من أزمة إسقاط أنقرة للمقاتلة الروسية، يبدو أن العلاقات التركية -الروسية تشهد حراكاً إيجابياً، هذه المرة من طرف موسكو. فتركيا كانت منذ الساعات الأولى للأزمة حريصة على إبقاء هذه العلاقات دون مستوى الأزمة والمواجهة لعدة أسباب تتعلق بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية وتوجهات السياسة الخارجية التركية فضلاً عن الحرص على تجنب المواجهة العسكرية، فكانت السردية التركية تتحدث عن إسقاط “طائرة مجهولة الهوية” وليس طائرة روسية، فضلاً عن طلب أردوغان لقاء بوتين أكثر من مرة ورفض الأخير ذلك.
في الأيام القليلة الماضية تكررت الرسائل الإيجابية من أنقرة باتجاه موسكو، مثل مشاركة بعض المسؤولين في وزارة الخارجية التركية -إضافة لآخرين -في احتفال السفارة الروسية في أنقرة باليوم الوطني الروسي، وإرسال أردوغان رسالة تهنئة بالمناسبة لبوتين متمنياً فيها “عودة العلاقات بين البلدين للمستوى الذي يليق بها” ورسالة رئيس الوزراء التركي أيضاً لنظيره الروسي، إضافة لدعوة أردوغان للسفير الروسي لمائدة الإفطار التي نظمها على شرف السفراء الأجانب في بلاده قبل أيام.
هذه المرة جاءت الإشارة من روسيا التي أعلن نائب وزير خارجيتها عن دعوة بلاده لتركيا لحضور اجتماع “منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود” في منتجع سوتشي وعدم ممانعتها “عقد مباحثات ثنائية معه”. وهو تصريح لافت يمكن إضافته لتصريحات سابقة لبوتين عبر فيها عن عدم وجود مشاكل لروسيا مع الشعب التركي وإنما مع بعض سياسييه وعن رغبة بلاده في تحسين العلاقة مع أنقرة. !!
الأهم من هذه الإشارات العلنية من الطرفين هي ما يمكن اعتباره “دبلوماسية الأبواب الخلفية” واللقاءات غير الرسمية بين شخصيات من الطرفين تحدثت عنها بعض التسريبات الإعلامية مؤخراً من بينها لقاء عُقد مؤخراً في موسكو بين “مركزي دراسات روسي وتركي” لبحث العلاقات الثنائية، لا يبدو أنه تم بعيداً عن رغبة القيادتين السياسيتين في البلدين.
بيد أن كل ذلك – إضافة إلى حرص الطرفين على التواصل المباشر دون وساطات خارجية – لا يبدو كافياً حتى الآن للقيام بخطوة عملية كبيرة، إذ ما زالت روسيا تتمسك بشرطيها لتصحيح العلاقة مع تركيا وهما الاعتذار عن إسقاط المقاتلة وقتل الطيار ودفع تعويضات عن الحادث، وهما الشرطان اللذان ترفضهما تركيا حتى الآن رفضاً قاطعاً باعتبارها لم تخطئ فيما فعلت “دفاعاً عن حدودها”، فضلاً عن لومها جارتها اللدود على تأزيم العلاقات بهذه الدرجة وحتى اليوم “بسبب خطأ ارتكبه طيار”، والمقصود هنا هو الطيار الروسي الذي اخترق الأجواء التركية، وليس الطيار التركي الذي أسقط مقاتلته، وفي ذلك تبرئة ضمنية لساحة روسيا نفسها من تقصد الاعتداء على الأجواء التركية.
من الواضح أن تأثر الجانبين سلباً بتوتر العلاقات وشبه انقطاعها يدفعهما لمحاولات جسر الهوة بينهما، سيما في الجانب الاقتصادي، فمن جهة، تُصدر روسيا لتركيا 55% من حاجتها من الغاز الطبيعي الأمر الذي يعطيها يداً طولي في ملف أمن الطاقة التركي، ومن جهة أخرى تراجع عدد السياح الروس القادمين إلى تركيا بنسبة تتراوح بين 55 – 80% بعد أن كانوا في المرتبة الثانية بعد الألمان، فضلاً عن استثمارات روسية ضخمة في تركيا مثل محطة “أك كويو” للطاقة النووية وخطـَّي السيل التركي (Turkish Stream) والسيل الأزرق (Blue Stream) للغاز الطبيعي، وهي علاقات تشكل ضغطاً إيجابياً على الطرفين للتوافق.
ومن الناحية الاستراتيجية، سعت تركيا حثيثاً لعلاقة متميزة مع روسيا -والصين بدرجة أقل -لتنويع محاور سياستها الخارجية وتقليل اعتمادها على العلاقة مع الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو) حصراً، فتقدمت بطلب عضوية منظمة “شنغهاي” بعد أن قُبلت فيها كدولة مراقب وتعاقدت مع الصين على صفقة منظومة دفاعات صاروخية، لكن كل ذلك تبدد مع دخان المقاتلة الروسية في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
الواقع إذن أن الطرفين يريدان تصويب العلاقة، سيما بعد أن بردت حدة المواجهة السياسية بينهما في سوريا بعد فرض المسار السياسي وفق اتفاق فيينا، ولكن كليهما أيضاً غير مستعد لاستحقاقات المصالحة حتى الآن. بيد أن كل السياقات سالفة الذكر تعني أنهما جادان في المحاولة ولكن الأمر قد يتطلب بعض الوقت.
مرة أخرى، وعلى عادة تركيا، قد يكون الاقتصاد سابقاً على السياسة في ترميم العلاقة وهو أمر متوقع ومنتظر طبعاً، لكن الكلفة السياسية ستكون عائقاً كبيراً أمام عودة العلاقات بينهما لسابق عهدها، أي قبل إسقاط الطائرة الروسية. إذا ما صدقت نوايا الطرفين وبحثهما الجاد عن سبل النزول عن الشجرة، فيمكن أن يكون هناك حل وسط بين اشتراط موسكو للاعتذار والتعويض ورفض أنقرة الصارم لهما.
صيغة الحل الوسط -كما أفترض -قد تأتي لاحقاً في وقت مناسب على شكل تعبير تركيا عن “أسفها” لما حصل (كما سبق وقالت مراراً)، وقبول روسيا هذا “الأسف” على أنه “اعتذار” تركي، فيمكن للطرفين حينها تسويق التقارب داخلياً على طرفي المعادلة، والأمثلة الدبلوماسية في هذا السياق أكثر من أن تحصى.
لقد سعت تركيا على مدى سبعة شهور كاملة إلى تحسين العلاقة مع روسيا وبذلت جهوداً مضنية في سبيل ذلك معتبرة أن إسقاط المقاتلة الذي أشعل فتيل الأزمة كان خطوة اضطرارية لم تتعمدها، بينما لا تريد موسكو استمرار تأزم العلاقات مع جارتها في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها خصوصاً بعد تجديد الاتحاد الأوروبي للعقوبات التي فرضها عليها.
وعليه، فإن حلاً وسطاً سيكون كفيلاً بإنزال الطرفين عن شجرة التصعيد التي اضطرا إليها والقطيعة التي لم يريدانها يوماً، قبل أن تأخذ العلاقة منحى تصاعدياً متدرجاً، وهو سيناريو بات أقرب للتحقق من أي وقت مضى في حال لم تطرأ مفاجآت لم تكن في حسبان الطرفين، سيما على يد أطراف ثالثة أو في المشهد السوري المشتعل.
ترك برس