شهدت محافظة إدلب السورية تصعيداً خطيراً جديداً بين قوات النظام السوري والجيش التركي في محيط مطار تفتناز، أسفر عن مقتل خمسة جنود أتراك وجرح خمسة آخرين، مما استدعى قصفاً تركياً على مصادر النيران وتدمير مواقع للنظام. وهذه هي المواجهة الثانية بين الطرفين خلال أسبوع واحد، حيث سبق لمدفعية النظام أن قصفت نقاط مراقبة تركية فأوقعت سبعة قتلى في صفوف الجيش التركي، الذي رد من جانبه وأعلن مقتل عشرات من جنود النظام.
ومن اللافت أن حادثة التصعيد يوم أمس وقعت بينما كان الوفدان التركي والروسي يعقدان اجتماعاً ثانياً في العاصمة التركية أنقرة، على مستويات دبلوماسية وعسكرية واستخباراتية، للبحث في التوتر الراهن، بعد أن أخفق الاجتماع الأول يوم السبت الماضي في التوصل إلى نتائج ملموسة. وهذا التزامن بين التصعيد الميداني على الجبهات ومواصلة اجتماعات أنقرة يمكن أن يعني استقرار موسكو على ترجيح الحل العسكري في محافظة إدلب، بدل الحلول الدبلوماسية والتفاهمات التي سبق أن اتفق عليها الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في أستانة وسوتشي، بمشاركة إيرانية أيضاً.
فإذا صحّ هذا الاحتمال، وثمة مؤشرات كثيرة تدل على صحته أبرزها أن النظام السوري لم يعد يملك الخيار في إطلاق رصاصة واحدة ضدّ الجيش التركي من دون إذن موسكو، فهذا يعني أن الكرملين قد يكون اعتمد سياسة مزدوجة في العلاقة مع تركيا. إنها من جانب أول تحافظ على الاتفاقيات الاستراتيجية في مستوى الطاقة والتبادل التجاري والتسليح والتكنولوجيا، ومن جانب ثان تأذن للنظام السوري أن يواصل عمليات القضم العسكرية التي تقرّبه أكثر فأكثر من إدلب المدينة، بعد معرة النعمان وسراقب.
كذلك يبدو واضحاً أن أنقرة تميّز من جهة أولى بين ضرورة صيانة الأمن القومي التركي وتحصينه بما يتطلب من تدابير مختلفة، بما في ذلك الرد العسكري الرادع على عمليات النظام السوري في المحافظة وضمن منطقة خفض التصعيد، وبين ضرورة الحفاظ على العلاقات الطيبة الراهنة مع روسيا من جهة ثانية. ذلك لأن هذا المستوى الاستراتيجي العالي من التعاون بين البلدين لم يترسخ إلا بعد خصام شديد أعقب إسقاط طائرة السوخوي 24 الروسية بنيران تركية خريف 2015، خلال الأسابيع الأولى من التدخل العسكري الروسي لإنقاذ النظام السوري من السقوط.
ولأنه ليس زواجاً كاثوليكياً هذا الذي يشد الروابط بين أنقرة وموسكو، وهو بالتالي نتاج توازن محسوب لسلسلة مصالح متطابقة تارة أو متناقضة تارة أخرى، فقد أمكن للرئيس الروسي أن ينتقل من دمشق إلى اسطنبول لتدشين خط أنابيب الغاز الروسي الذي سيغذي أوروبا. كذلك أمكن لمدفعية النظام السوري أن تقصف مواقع تركية وتوقع ضحايا في صفوف الجيش التركي، بتغطية جوية من الطيران الحربي الروسي، وتغطية دبلوماسية من الوفد الروسي المجتمع مع نظيره التركي في أنقرة.
وإذ تدل معطيات يوم أمس على فشل اجتماعَيْ أنقرة، واستبعاد قمة قريبة بين أردوغان وبوتين، فإن عناصر عملية عسكرية تركية جديدة في العمق السوري أخذت تتكامل تدريجياً، والمؤشرات تؤكد احتمال مواجهة وشيكة واسعة النطاق مع جيش النظام السوري من طراز يبدل شروط اللعبة تماماً. وأما الخاسر الأول والدائم فإنه المواطن السوري الواقع بين المطرقة والسندان، ضحية القصف والتدمير والتهجير، ونبش القبور أيضاً.
نقلا عن القدس العربي _