وقعت تركيا وإيران، يوم الخميس 1 حزيران/ يونيو، ثلاثة اتفاقيات تجارية بقيمة 100 مليون دولار في مجال بناء السفن وتنفيذ مشاريع الإنشاء. وفيما شملت الاتفاقية مشروع تحديث تركيا ميناء السفن في مقاطعة خوزستان بقيمة 15 مليون دولار، تضمنت تسليم إيران أول سفينة “كاتاماران” مصنعة إيرانياً إلى الجانب التركي.
وإلى جانب هذه الاتفاقية الاقتصادية النوعية، حل وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، ضيفاً على أنقرة في يوم 7 حزيران، في زيارةٍ سريعةٍ ومفاجئةٍ فُسرت على أنها سعيٌ إيراني للتعاون مع تركيا للنظر في الحلول الممكنة لأزمة قطر، وإمكانيات بذل الجهود المشتركة في محاربة الإرهاب الذي أصاب طهران، الأربعاء 7 حزيران 2017، لأول مرة منذ بدء أزمات دول الربيع العربي.
وفي ضوء هذه التطورات، يبقى السؤال الأكثر طرحاً هو؛ هل تتجه تركيا فعلاً نحو تحولات سياسية مخالفة لتلك السياسات التي اتبعتها حيال إيران منذ بداية الثورة السورية؟
في البداية، تأتي الاتفاقية الاقتصادية في ضوء السياسة التركية القائمة على “الترويض أو الاحتواء الاقتصادي الناعم” للأطراف المختلفة معها، أو سياسة “فصل الملفات” التي اعتادت تركيا على اتباعها مع الأطراف المختلفة معها سياسياً في سبيل تحقيق الهدف المذكور؛ وهو الترويض والاحتواء. ولا تُطبق هذه السياسة التي تُعرف باسم “الارتباط الاقتصادي الوثيق”، لأول مرة من قبل تركيا مع إيران، بل اعتمدت تركيا، على الرغم من فرض حصار دولي على إيران، على تطبيق هذه السياسة معها منذ عزمها، أي إيران، على الانفتاح في نهاية الثمانينات.
يحمل تزامن توقيت الاتفاقية مع ميلاد أزمة دبلوماسية خليجية جديدة، الكثير من الدلالات التي تدفعنا نحو استنباط وجود توجه تركي لابتدار سياسات تعاونية مع إيران، ربما ليقينها بعدم إمكانية تحقيق “تكاملها الاقتصادي والسياسي” مع دول الخليج التي ما انفكت تخرج من أزمة داخلية لتدخل في أخرى في فترات زمنية قصيرة.
ربما شكلت حالة عدم التوافق بين مخرجات قمة الرياض التي تجاهلت الدور التركي الفعال في المنطقة، والطموحات التركية الرامية إلى تأسيس تحالف إقليمي تعاوني بعيد عن ترسيخ التبعية الكاملة لدولةٍ ما، ومدعوم أمريكياً، ومراعياً لمصالح جميع دول المنطقة المشاركة، عاملاً أساسياً في دفعها نحو موازنة خلافاتها مع إيران عبر المقاصد الاقتصادية والدبلوماسية. بمعنى أن فقدان الأمل في تحقيق دورٍ فعال في تأسيس جبهة تكتلية موازنة للتحركات الإيرانية دفع تركيا لتخفيف حدة الخلاف مع إيران والنظر في إمكانيات التحرك المشترك.
لا شك أن خيبة الأمل الأمريكية التي مُنيّت بها تركيا، نتيجة عدم موافقة الولايات المتحدة على خططها تجاه الأزمة السورية، وتحرك الولايات المتحدة بالتعاون مع وحدات الحماية الكردية التي تتهمها تركيا بالإرهاب، قد لعبت دوراً أساسياً في ابتعاد تركيا عن سياسة المواجهة، والجنوح لسياسة “التوافقات الوسطى” أو “البراغماتية” التي طالما تحلت بها تركيا حيال الدول المختلفة معها سياسياً.
وفي السياق ذاته، لا يمكن إغفال حدة التوتر القائمة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، والتي انتهت بإعلان ألمانيا سحب قواتها من قاعدة إنجيرليك. الأمر الذي جعل تركيا بحاجة فعلاً لسياسة توافقية مع إيران.
هذه المؤشرات التي نتحدث عنها لا تعني بالطبع تقديم التنازلات في الميدان، بل تدلل على محاولة الطرفين تذليل الخلافات الموجودة بينهما قدر الإمكان عبر السبل الناعمة، مع الإبقاء على “العصا في اليد” في نطاق المناطق الحمراء لكل منهما. إن تحول المناطق الحمراء إلى مناطق خضراء يرتبط بمدى إمكانية تحقيقهما “توافقاً مطلقاً” يكفل المصالح المشتركة لكليهما. وفي حال كان التحليل صحيحاً، قد نرى توافقاً أو تنسيقاً تركياً ـ إيرانياً في بعض المسائل العالقة؛ كسوريا التي باتت تركيا تقيمها على أنها مسألة لا يمكن حلها سوى بالطرق السلمية، مع استمرارنا في مشاهدة منافستهما الميدانية غير المباشرة في مناطق أخرى؛ كالعراق الذي يمثل محطة نفوذٍ أمنيٍ واقتصاديٍ لتركيا التي لا يمكن لها أن تتغافل فيه تماماً عن التوغل الإيراني.
في العموم، حاولت تركيا مراراً وتكراراً التقارب مع إيران اقتصادياً ودبلوماسياً لاحتواء الأزمات العالقة فيما بينهما، إلا أنها فشلت أكثر من مرة. لكن يبدو أنه في هذه المرة قد يحقق البلدان توافقاً مشتركاً، لا سيما في ظل عدم تمكن تركيا من بناء تكتل أمني اقتصادي أمريكي ـ خليجي ـ تركي متين وفقاً لمصالحها، وفي ضوء تعرض إيران لاحتمال فرض عقوبات مشددة عليها.
ترك برس