يظهر بوضوح تامّ هذه الأيام، كم أن تركيا خرجت سريعاً من محاولة الانقلاب التي استهدفتها في الخامس عشر من يوليو/ تموز الماضي، لتصبح أنقرة عملياً محور مشاريع الحلول السورية المتسارعة. وقد تحول الملف السوري إلى عنوان رئيس لكل الحراك الدبلوماسي الذي شهدته الأيام الماضية، من سانت بطرسبورغ إلى أنقرة فإسطنبول، بالإضافة إلى عودة الموضوع السوري إلى عنوان مركزي في معظم تصريحات المسؤولين الأتراك، حتى حين تكون مناسبات الكلام شؤوناً داخلية مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر، بمحاولة الانقلاب وحملة “التطهير” التي تلتها و”الحرب الدبلوماسية” التي يشنها الرئيس رجب طيب أردوغان ومساعدوه باتجاهات أميركية وأوروبية عديدة.
اللافت في الحراك الدبلوماسي الذي تظهر تركيا فيه بمثابة العنصر المشترك الحاضر دوماً، هو أنه ذو طابع إقليمي لا دولي، تحديداً تركي ــ روسي ــ إيراني، مع استبعاد ضمني أو علني لكل من الأمم المتحدة ومبعوثها ستيفان دي ميستورا، وللطرف الأميركي، الذي يبدو إما غير عارف بتفاصيل ما يتم التحضير له، أو في حالة إرباك دفعته لإرسال وفد رفيع جداً إلى القيادة التركية يوم الرابع والعشرين من الشهر الحالي، مؤلف من نائب الرئيس، جو بايدن، “طباخ” المشاريع الأميركية لمعظم ملفات المنطقة (مسؤول الملف العراقي والكردي في الإدارة الأميركية)، ووزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الذي يحلو لكثيرين تسميته بـ”صديق سيرغي لافروف”، ككنية تسبق صفته كرئيس للدبلوماسية الأميركية.
وتعترف أوساط تركية وأخرى سورية مطلعة على الحراك السوري داخل الإدارة التركية، بأن شكل الحلّ الذي يكثر الكلام حوله على لسان المسؤولين الأتراك في الفترة الأخيرة، يبدو غامضاً حتى بالنسبة لعدد من المسؤولين الأتراك أنفسهم، لكن الأكيد هو أن “شيئاً ما يحصل” على هذا الصعيد. وفي هذا السياق، يورد المطلعون على كواليس التطورات السورية في أنقرة وإسطنبول، أمثلة عديدة، تبدأ بتلويح الرئيس رجب طيب أردوغان، قبيل لقائه في سانت بطرسبورغ بنظيره فلاديمير بوتين، في التاسع من الشهر الحالي، بأن الحل السوري لا بد أن يكون إقليمياً بمشاركة تركية روسية إيرانية سعودية، وتمرّ بالاتفاقات العسكرية المعلنة بين أردوغان وبوتين حول سورية (طلب موسكو لائحة بالأهداف “الإرهابية” المطلوب ضربها واقتراح أنقرة مشاركة فاعلة في الحرب على الإرهاب في سورية)، ومشاريع التفاهمات السياسية التي لم تتضح أشكالها التفصيلية بعد. وتصل تلك الأمثلة إلى ما يشبه اتفاق التحالف الذي أبرمه ضمنياً حكام تركيا مع الضيف الإيراني قبل يومين، وزير الخارجية محمد جواد ظريف، لدى زيارته تركيا، ضد “الخطر التقسيمي في سورية”، وهو ما لا يمكن فهمه إلا على اعتباره اسماً حركياً لـ”الخطر الكردي” الذي يشغل بال المسؤولين الإيرانيين بقدر ما يوجع رأس الحكام الأتراك. خطر لا يستبعد البعض أنه بدأ يقلق حاكم دمشق نفسه على قاعدة أن قوات سورية الديمقراطية وعمودها الفقري، حزب صالح مسلم، “الاتحاد الديمقراطي”، بدأ يشعر بفائض قوة تجعله يخرج من “التفاهم الضمني” مع النظام السوري نحو نزعة انفصالية لا يستطيع بشار الأسد احتواءها في ظل الدعم المستمر الذي يتلقاه الجناح السوري لـ”العمال الكردستاني” من موسكو وواشنطن.
بين هذا وذاك، ظلّت عبارة “لا مكان لبشار الأسد في مستقبل سورية” ثابتة في التصريحات التركية، أكان بحضرة بوتين أو بوجود ظريف، وهو ما يرجح أن يتكرر في اللقاءات التي ستجمع أردوغان ورفاقه من جهة، مع كل من بايدن وكيري في 24 من الشهر الحالي من جهة ثانية. حتى الأتراك يبدون غير واثقين بالكامل إزاء حقيقة ما يدور في أروقة الإدارة الأميركية حيال المشاروات التركية ــ الإيرانية ــ الروسية حول سورية؛ فإن كانت واشنطن مرتاحة فعلاً لاحتمال إيجاد “حلّ إقليمي” للملف السوري، لماذا أتى كلام المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية مايكل راتني، خلال لقائه مجموعة من رموز المعارضة السورية في تركيا قبل أيام، على شاكلة تهديد مفاده أنه لا بد لكم من التواصل مع أكراد سورية والاتصال بالروس القابضين على جزء كبير من الحل هناك؟
وقد انشغل كثيرون، أمس السبت، في محاولة فك رموز اللغز الذي رماه رئيس الحكومة التركية، بن علي يلدريم، عندما قال، خلال لقاء أجراه مع عدد من ممثلي وسائل الإعلام التركية، في مقر رئاسة الوزراء في أنقرة: “لا تستغربوا إن حصلت تطورات مهمة في الشأن السوري خلال الأشهر الستة المقبلة”. وتنقسم تقديرات مسؤولين سوريين معارضين حيال كلام يلدريم بين نظريتين: إما أن يكون كلام رئيس الحكومة بمثابة جس نبض أو “بالون اختبار” شبيه بما فجره قبل يومين من محاولة الانقلاب، عندما قال إنه “حان الوقت لتطبيع العلاقات مع سورية”، أو أن يكون نابعاً بالفعل من معطيات واضحة ومحددة تتضمن جدولاً زمنياً لمشروع سوري ما يشمل الأتراك والروس والإيرانيين.
يبقى الثابت الوحيد أن حراكاً كبيراً تشهده أروقة الدبلوماسية هذه الأيام تحت عنوان عريض هو “إعادة ترتيب وضع المنطقة” انطلاقاً من الساحة السورية، يبدو أن الجميع مشتركون فيه، باستثناء العرب المستسلمين إما لأزمة نظامهم الرسمي، أو لواقع ضعف يضربهم بصورة غير مسبوقة.
صدى الشام