ثمة أحداث مفصلية في مسيرة كل دولة/شعب تتحول إلى منعطفات تاريخية، لا تعود البلاد بعدها إلى ما كانت عليه قبلها، مثل الحروب والثورات ومعارك الاستقلال، وفي هذا الباب تأتي المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في الخامس عشر من تموز/يوليو من العام الفائت والتي تحيي تركيا ببرنامج خاص وحافل ذكراها السنوية الأولى هذه الأيام.
لو كان الانقلاب نجح -لا قدر الله -لشكّل فعلاً صورة تركيا ومكانتها ومستقبلها لسنوات طويلة قادمة كما فعلت الانقلابات الأربعة السابقة، لكن فشله أيضاً لا يقل أهمية بل لعله أصبح محطة استثنائية في تاريخ تركيا الحديث سيشكل مستقبلها على المديين المتوسط والبعيد.
وبغض النظر عن كونه شعاراً تكرر كثيراً، إلا أن الوقائع والأحداث المستجدة على مدى الشهور الـ 12 الفائتة تثبت أن تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل ليست تركيا ما قبله أبداً، بل تغيرت وبشكل شبه جذري على أربعة مستويات على الأقل، هي:
الأول: الوعي الشعبي:
يقول البرلماني التركي البروفيسور ياسين أقطاي (أستاذ علم الاجتماع والنائب السابق لرئيس حزب العدالة والتنمية) أن أحد أهم أسباب فشل الانقلاب العام الفائت هو ارتفاع مستوى وعي الشعب التركي، الذي كان ضعيفاً وعاجزاً في الانقلابات السابقة. وهذا صحيح، لكنني أيضاً أرى الأمر بالاتجاه المعاكس، بحيث رفعت أحداث المحاولة الانقلابية الفاشلة العام الفائت من مستوى الوعي الشعبي أضعافاً مضاعفة.
لقد رأى الشعب بأم عينيه كيف يمكن -بل ينبغي -حماية التجربة الديمقراطية والحكومة المنتخبة من الانقلابات العسكرية التي تعيد البلاد عشرات السنين للخلف، بل وفعل ذلك بنفسه ودفع في سبيل ذلك 249 شهيداً من خيرة أبنائه، والأهم أنه اختبر عياناً كيف أن الانقلابات ليست قدراً مقدوراً بل يمكن دفعها وإفشالها إن صدقت النوايا وحسن العمل.
الثاني: تركيا المبادِرة:
لطالما اتسمت سياسة تركيا الخارجية بشيء من التحفظ والبطء والبيروقراطية التي أفقدتها الكثير من الفرص وعرّضتها للعديد من المخاطر، بيد أن لحظة الانقلاب الفاشل كانت حاسمة ومؤثرة على هذا الصعيد، لنرى تركيا جديدة ومبادِرة وسريعة في قراراتها ومواقفها.
فرغم آثار الانقلاب الفاشل العميقة على المؤسسة العسكرية وعمليات التحقيق وإعادة الهيكلة وحفظ السمعة، إلا أن تركيا شرعت في عملية “درع الفرات” في سوريا بعد شهر ونصف فقط من الانقلاب (24 آب/أغسطس 2016)، كما تصرفت بسرعة ومبادرة في الأزمة الخليجية بتسريع تصويت البرلمان على إرسال جنود أتراك إلى قطر ثم أرسلت عدة دفعات منهم فعلاً، بينما تعد العدة حالياً لعملية محتملة في عفرين شمال سوريا تحت اسم “سيف الفرات”.
الثالث: إغلاق باب الانقلابات:
اعتاد الشعب التركي أن يستيقظ باكراً ليجد انقلاباً عسكرياً قد حدث واكتمل واستتب له الأمر بعد تغييب القيادة السياسية المختارة من قبله، فيبقى بلا حول ولا قوة. أما العام المنصرم، فقد أدى انكشاف خطة الانقلاب لتسريعه وتقديمه في ارتجال وعشوائية واضحَيْن، ما أتاح للشعب أن يعبر عن موقفه ويبادر للنزول للشارع ويواجه.
اليوم، مع فشل المحاولة وانتصار الشعب وازياد وعيه وفخره بما صنع، لا يمكن توقع حدوث انقلاب عسكري بسهولة في تركيا. سيكون على من يفكر بذلك أن يعيد التفكير ألف مرة، لأن أي انقلاب عسكري قادم -لا قدر الله -سيواجه الشعب قولاً واحداً، حتى ولو تم واستتب له الأمر كما سابقيه (فضلاً عن دور المؤسسات الأخرى أيضاً)، ذلك أن تاريخاً جديداً قد كـُتب وَجَبَّ ما قبله. لا أقول إن باب الانقلابات قد أوصد تماماً في تركيا، لكن الأمر بات أصعب بكثير، سيما على المدى القصير ووفق الظروف الحالية1.
الرابع: التجربة الديمقراطية:
بدأت مسيرة تركيا الديمقراطية والبرلمانية في نهايات الدولة العثمانية، لكنها تعرضت لعقبات وتحديات وانتكاسات كثيرة، أهمها الانقلابات الأربعة في 1960 و1971 و1980 و1997، مما أعاقها وأعادها سنوات كثيرة للوراء.
الاستقرار السياسي الذي عاشته تركيا في عهد العدالة والتنمية وكل ما تم من إنجازات سياسية واقتصادية وإنمائية وإصلاحية أضفت الكثير للوعي الجمعي للشعب التركي وتمسكه بتجربته الفتية. ولعل إفشال المحاولة الانقلابية قد أفاد التجربة الديمقراطية من خلال التمسك بالمؤسسات المنتخبة ورفض الوصاية العسكرية من جهة، كما زاد أيضاً من خلال تبعاته وانعكاساته الكثيرة من تطويع مختلف المؤسسات -سيما العسكرية -للحكومة المدنية المنتخبة وهذا بحد ذاته مكسب كبير جداً.
لا أقول إن التجربة الديمقراطية التركية قد وصلت إلى منتهاها أو مبتغاها، بل لا زال أمامها الكثير، ولعل عملية التحقيق المستمرة بخصوص الانقلاب والكيان الموازي أحد التحديات الكبيرة التي تحتاج أنقرة للتعامل معها بالشكل اللائق في ظل الانتقادات الكثيرة الموجهة لها داخلياً وخارجياً. لكن، وفي نهاية المطاف، انتقلت البلاد إلى مرحلة جديدة في مسيرتها بخطى ثابتة، ولعل الفترة الانتقالية الحالية التي تعيشها البلاد بعد إقرار النظام الرئاسي وقبل تطبيقه محطة مهمة في مسار هذه التجربة.
إن التجارب الديمقراطية الراسخة في الغرب هي نتاج فترة زمنية طويلة تخللتها أحداث مفصلية كثيرة من بينها حروب أهلية ودينية وصراعات بينية وثورات وثورات مضادة، واليوم يبدو أن الانقلاب الفاشل في تركيا أضحى محطة بارزة في تاريخها الحديث يفترض أن تضيف لمسيرتها الديمقراطية إذا ما اتخذت القرارات السليمة في الأوقات الصحيحة.
ما زلنا في الذكرى السنوية الأولى للانقلاب الفاشل، والذي قررت السلطات التركية أن يكون يوماً احتفالياً واحتفائياً كل عام، ورغم ذلك فقد شهدت تركيا خلالها عمليات عسكرية خارجية وقرارات مفاجئة في السياسة الخارجية وإعادة هيكلة (ما زالت مستمرة) لمعظم مؤسسات الدولة واستفتاء دستورياً غيَّر نظام الحكم في البلاد من برلماني إلى رئاسي. فكيف ستكون ارتدادات هذا الحدث الاستثنائي وانعكاساته على تركيا على المديين المتوسط والبعيد؟ 2.
ترك برس