الوقوف على الأطلال هو عادة في الشعر الجاهلي، يستهل بها الشاعر قصيدته ببضع أبيات يصف دياره وقبيلته التي كان قد سكنها سابقًا أو ديار محبوبته، يستهل بها النسيب والغزل.
ولم تكن وقفة حقيقية في أغلب أحيانها، فكانت متخيلة، ولها دلالتها الرمزية، فالأطلال التي تعج بالحياة تفضي لقصيدة موضوعها الرئيسي المديح والفخر،
أما الأطلال القفرة فهي نذير الموت والرثاء والاعتذار، كما في معلقة النابغة الذبياني، التي عيت جوابا الديار عن سلامه، بعكس
زهير بن أبي سلمى الذي حياها وصبح عليها وكانت تضج بالحياة ففيها العين والآرام والأطلاء.
ووقف امرؤ القيس باكيًا مستبكيًا، لا ملامح لأطلاله التي كادت أن تمسحها الريح، وبعدت الحياة عنها فيبست واضمحلت بقايا
المواشي لتصير عجرًا، كحب الفلفل في الرسوم الدارسة المنقرضة الفانية.
فقصيدته كانت تعجّ بتحذيرات الفناء والموت للكون، فرغم استذكاره للمغامرات النسائية وتبدل وكثرة تاك المغامرات،
إلا أنه في نهاية المغامرات يتذلل لفاطمة التي لا تعيره اهتمام الحياة، بل قطيعة فلسفة الموت والفناء، لينتقل إلى بيضة الخدر
ومغامرته الطويلة معها، التي تعلل رأيه في أن الملذات إلى زوال.
فمن غير المعقول أن يتغزل ويعلن الحب شاعرًا على فتاة ما بتعداد مغامراته النسائية، ونفسه الشاعر يعلل ذلك في المقطع
الذي يليه بليل لا ينجلي وإن انجلى فلصبح يشبهه أسود لا أمل للحياة فيه.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/444799267093140
ومن ثم يصف لنا حصانًا أسطوريًا لينتقم من واقعه المرير، وذكرياته القديمة التي لا معنى لها، بعدما بين له قتل أبيه إنذارات الفناء.
ليأتي على السيل في نهاية قصيدته، يغرق الأرض في مشهد يشبه الطوفان العظيم، فلا عاصم لوحش ولا لسبع من المطر.
العصر الأموي والعباسي
وبتطور الحياة العربية في العصر الأموي والعباسي والانتقال إلى الرخاء الاقتصادي والعمران والحضارة ألغيت ظاهرة الوقوف
على الأطلال إلا لمناسبات الاستذكار والمعارضات الشعرية.
لكن الاستقرار لم بدم طويلًا، فكانت بعد كل خيبة سياسية ينبش الأدباء الإرث القديم، وتحول هذا النبش أغلبه إلى إسقاطات
ساخرة في الوقوف على أطلال الحروب والطائرات.
قصيدة الشاعر السوري عبد الرحمن الإبراهيم
ففي قصيدة ساخرة للشاعر السوري المعاصر “عبد الرحمن الإبراهيم” يحدثنا الشاعر عن وقفة على آثار الديار بعد غزوة من
غزوات النظام على قريته، بأسلوب المضحك المبكي، على ما آل إليه هذا النظام من آلة حقد وما آلت له تلك المنطقة.
ينفعل الشاعر في نسيج قصيدته، التي برع في تصوير الخراب، وأي خراب يخلفه جيش كامل في غزو مقبرة، فيقول في خاتمة
القصيدة :
“وتدَخّلَتْ للحسمِ من قلبِ الفضاء الطائراتُ الفاخرةْ
ألقتْ قنابلَ من طرازٍ فاخرٍ
قلَبتْ صخورَ الأرض شيئاً آخرا
وخرجتُ ألتمسُ الحقيقةَ ..
بعدما الإعلامُ طبلَّ بانتصارات النظام وزمّرَا
و رأيتُ أشلاءَ الضحايا ..كان يحملُ بعضُها
أسماءَ أموات العصورِ الغابرةْ
ووجدتُ فيما بينها
أشلاءَ شاهدةٍ لتربةِ جدّتي
قبّلتُها مستغفراً .. وسألتها مستنكرا
: كيفَ استطاعتْ فرقةٌ
وبليلةٍ .. أن تستحلَّ المقبرةْ ؟!
كادتْ تقول : بفضلكمْ
لولا انشغالُ حُطامها
بالرعب من أهوال تلكَ المسخرة”
الخذلان
هنا يستنطق الشاعر الحجر ويكلمها كما فعل الأقدمون في أطلالهم، توافقًا لغرابة الموقف الذي يثير دهشة المتلقي، فجيش
كامل العدة والعتاد بطائراته ودباباته وبواخره يغزو قرية فارغة،
فما هو إلا وقوف على أطلال أمرؤ القيس الذي أنذر بفناء لا مفر منه بعدما خذلته القبيلة والعشيرة والروم في نجدته لثأر أبيه.
كما خذل الشاعر هنا في نصر الثورة اليتيمة التي وقف على أطلالها مبكراً، ينذر العالم بنظام يقتل الأموات حتى قبل الأحياء،
ولكنه نظام جبان للأسف كالواقفين على حياد حطام مقبرة الشاعر.