محمود عثمان – خاص ترك برس
بينما يسعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى مغادرة البيت الأبيض دون مشاكل، يلاحقه غريمه الروسي بوتين ملاحقة الظل. يريد انتزاع مكسب استراتيجي قبيل مغادرة الأول منصب الرئاسة. يدرك بوتين أن استراتيجية أوباما وإدارته تقضي حاليا وضع كل شيء في الثلاجة إلى حين انتهاء استحقاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، مُحيلا لمن بعده إدارة الملفات الدولية الشائكة وفي مقدمتها القضية السورية.
بوتين يسعى لجر الإدارة الأمريكية إلى الساحات الساخنة، وقد نجح في انتزاع تنازلات محدودة على حساب الشعب السوري، كما نجح في إحداث شروخ بين وزارتي الدفاع والخارجية في الإدارة الأمريكية نفسها. بوتين يتعامل مع هذه الإدارة على أنها إدارة الرجل المريض غير القادر على فعل شيء. طلبات الروسي لا تنتهي، والأمريكي في كل مرة يهز رأسه بالإيجاب والموافقة، في محاولة لشراء الوقت.
جميع التنازلات التي حصل عليها الروسي محلية محدودة في المجال السوري، بينما يريد هو تنازلات في مكان آخر، في أكرانيا وأوربا الشرقية والدرع الصاروخية . هنا يشهر الأمريكي البطاقة الصفراء. يزداد الروسي حنقا وغضبًا، فيأمر طيرانه بحرق حلب بالأسلحة الفتاكة. يستخدم كل يوم نوعًا جديدًا من القنابل المحرمة دوليًا، من الحارقة إلى الارتجاجية إلى الفراغية الى غيرها، دون أن يقيم وزنا للأمم المتحدة ولا لقراراتها.
حلب تحترق، المستشفيات القليلة المتبقية في الخدمة في الجزء الشرقي من المدينة، تكتظ بالجرحى الممددين على الأرض بسبب النقص في عدد الأسرّة، الجرحى يموتون أمام أعين الأطباء العاجزين عن تقديم الخدمات. الإمكانيات محدودة، والخرق كبر على الراقع. الأطفال يصرخون من الألم، معظم الجرحى يتمددون على الأرض التي صبغتها دماء الضحايا باللون الأحمر. بنايات كاملة سوّاها القصف الروسي بالأرض، فحولها كتلًا من الركام. أعمدة كهرباء محطمة، والسيارات مدمرة أو محروقة. بوتين يشن حرب إبادة ضد الشعب السوري من أجل تركيعه على غرار ما فعل في الشيشان.
بناء على طلب من بريطانيا وأميركا وفرنسا عقدت الليلة جلسة طارئة لمجلس الأمن، للضغط على روسيا من أجل تفعيل وقف إطلاق النار الوارد في اتفاق كيري – لافروف، في حين أعلنت روسيا أن السلام في سورية أصبح مهمة “شبه مستحيلة”.
جلسة مجلس الأمن شهدت معركة دبلوماسية حامية الوطيس . حيث اتهمت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية “سامنثا باور” روسيا بأنها تقوم بأفعال وحشية في سورية، وأنها ترتكب جرائم حرب ضد الانسانية، ولا علاقة لما يقوم به الروس بمحاربة الإرهاب.
كما ندد السفير البريطاني ماتيو رايكروفت بـما سماها “الخروق الفاضحة للقوانين الدولية” في حلب وتطرق الى احتمال اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية، مؤكدًا أن محاولات الولايات المتحدة وروسيا إحلال السلام في سورية “تقترب كثيرًا من نهايتها وعلى مجلس الأمن أن يكون مستعداً للوفاء بمسؤولياته”.
السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة فرنسوا دولاتر أعلن أن “جرائم حرب ترتكب في حلب، ويجب أن لا تبقى من دون عقاب”، واتهم دولاتر النظام السوري وحليفه الروسي بالمضي في الحل العسكري في سورية واستخدام المفاوضات للتمويه.
وقال دولاتر إن “فرنسا تطالب بالتطبيق الفوري لهذا الاتفاق ابتداء من حلب”، مشددًا على أن “جرائم حرب ترتكب في حلب”، ومشيرًا إلى “استخدام قنابل حارقة وذخائر متطورة”.
في سياق متصل، قال وزير خارجية فرنسا جان مارك إرلوت اليوم إن روسيا وإيران قد تصبحان شريكتين في جرائم حرب إذا واصلتا إطالة أمد الحرب في سورية.
وطالب إرلوت البلدين اللذين وصفهما بأنهما داعمان لرئيس النظام بشار الأسد “بالاضطلاع بمسؤولياتهما من خلال التخلي عن هذه الاستراتيجية التي تقود إلى طريق مسدود”.
وتابع إرلوت “وإلا فسوف تصبح روسيا وإيران شريكتين في جرائم الحرب التي ترتكب في حلب”، في إشارة إلى القصف الذي تتعرض له المدينة , والذي أودى بحياة مئات المدنيين.
الموقف الروسي في جلسة مجلس الأمن الطارئة كان ضعيفًا جدًا، حيث لم يتمكن سفير روسيا في الأمم المتحدة تشوركن من الرد على الاتهامات ضد بلده بارتكاب جرائم حرب ضد الانسانية، بل راح يناور ويراوغ، قائلا: “إن السلام في سورية أصبح مهمة شبه مستحيلة الآن”.
مبعوث الأمم المتحدة الخاص بالشأن السوري ستيفان ديميستورا قدم خلال الاجتماع نفسه إحاطة، تناولت الأحداث الأليمة التي ترتكب ضد المدنيين في سورية ومدينة حلب تحديدًا، من غير الإشارة إلى الطرف الذي قام بارتكاب تلك الجرائم. ديمستورا قال إنه مقتنع بأن الوضع في سورية يمكن تغييره وأنه لن يستقيل، لأنه يريد مساعدة الشعب السوري!.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سينتج عن هذه المعارك والسجالات الكلامية بين روسيا والغرب خطوات عملية تحد من التغول الروسي في سورية؟
كل شيء متوقف عند الرئيس أوباما وإدارته، لأن الأمريكان وحدهم من يملك الأدوات التي توقف الروس، أو تحد من عدوانيتهم المفرطة على الأقل. المعارضة السورية تطالب باستمرار السماح لها بالحصول على الأسلحة النوعية وفي مقدمتها الصواريخ المضادة للطائرات. لكن الأمريكان يمنعونها من ذلك، بحجة أن هذه الأسلحة سوف تنتقل للفصائل الإرهابية. أي إرهاب بقي أكثر من تدمير المدن على رؤوس ساكنيها، ومحاصرة المدنيين وتجويعهم على مرأى ومسمع من العالم أجمع.
في المحصلة النهائية، لا فرق عند الشعب السوري بين من يقتله بطائراته وآلته الحربية، وبين من يمنع عنه السلاح ويكبل يديه ليقوم الآخر بذبحه. لم يعد المواطن السوري يفرق بين أوباما وكيري وبوتين ولافروف، أيهم أشد عليه أذى.