تعهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن تدخّله العسكري في سوريا سيكون لثلاثة أو أربعة أشهر فقط، وها هو اليوم يدخل عامه الخامس، بما يذكّر بعنوان كتاب “خمس دقائق وحسب” للكاتبة السورية هبة الدباغ، الذي روت فيه يوميات اعتقالها بعدما طلب منها ضابط مخابرات أن تذهب معه إلى الفرع لخمس دقائق، وانتهت بها لقضاء تسع سنوات في السجون السورية. ورغم أن روسيا الدولة العظمى قد استخدمت في سوريا خلال هذه السنوات كل ما تملكه من إمكانيات عسكرية وسياسية واقتصادية، لكن لا يوجد ما يدل على حل قريب للمشكلة السورية، ويبدو أن وعد الأشهر المعدودة لم يكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من التناقض بين ما يقوله بوتين وإعلامه وبين ما يتم فعله على أرض الواقع منذ بداية الثورة السورية حتى اليوم.
فبينما كان الموقف الروسي المعلن عام 2011 أن موسكو غير معنية بمصير بشار الأسد، كان هناك جسر جوي ينقل الأسلحة والذخائر لدمشق وكانت روسيا تعرقل أي جهد دولي لإدانة ممارسات النظام السوري أو أي دعوة للبدء بتسوية سياسية حقيقية. وكان الدعم الروسي يزداد طردا مع ضعف النظام، إلى أن اتضح أن الإيرانيين غير قادرين على إنقاذه، فبدأ التدخل الروسي، وتداولت وسائل إعلام أميركية صور أقمار اصطناعية تظهر طائرات روسية تم نقلها إلى سوريا، وذكر تقرير لنيويورك تايمز أن روسيا أرسلت وفدا عسكريا متقدما إلى سوريا وهي بصدد القيام بخطوات أخرى تشمل إرسال وحدات سكنية جاهزة لمئات الأشخاص وأجهزة لمراقبة الحركة الجوية.
ثم في الثلاثين من سبتمبر 2015 انعقد مجلس الدوما الروسي لبضع دقائق ووافق بالإجماع على إرسال قوات إلى سوريا، وتعهد بوتين للمجلس بأن روسيا لا تنوي حشر نفسها بالنزاع السوري، وأن تدخّلها سيقتصر على سلاح الجو دون المشاركة في العمليات البرية. ولكن الأحداث أثبتت عدم صحّة ذلك، وظهرت في البداية إعلانات على مواقع خاصة تدعو الراغبين بالتطوع للمشاركة في العمليات العسكرية ضمن البعثة الروسية في سوريا، لأن صيغة “التطوع” تسقط المسؤولية عن الدولة الروسية في المشاركة البريّة في هذه الحرب التي لا يوجد إجماع في المجتمع الروسي حول ضرورة التدخّل فيها.
ثم أعلن بوتين في مارس 2016 سحب الجزء الرئيسي من القوات الروسية من سوريا وكان هذا الإعلان أيضا استمرارا لنفس السياسة الروسية في قول شيء والقيام بعكسه، إذ ترافق مع ارتفاع أعداد الجنود الروس الذين يتم إرسالهم إلى سوريا، وفي عام 2018 أي بعد ثلاث سنوات من التدخل الروسي، اعترفت وزارة الدفاع الروسية بأن أكثر من 63 ألف جندي روسي قد اشتركوا في القتال هناك بينهم 25738 ضابطا و434 جنرالا، بالإضافة إلى 91 في المئة من الطيارين الحربيين و 60 في المئة من طواقم الطيران الاستراتيجي، ومن المؤكد أن هذه الأعداد قد ارتفعت منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، كما أنها لا تشمل الآلاف من المرتزقة الروس في الشركات الخاصة مثل فاغنر وباتريوت.
وفي تناقض آخر بين ما تقوله البيانات الرسمية وما يحدث في الواقع، فقد صرح المتحدث العسكري الروسي في اليوم الأول للتدخل أن الطائرات الروسية شنّت عشرين غارة استهدفت مواقع لداعش في سوريا، دون التعرّض إلى أي بنية تحتية مدنية، ولكن الطائرات الروسية قصفت في الحقيقة مناطق تلبيسة والرستن بريف حمص التي لا وجود لداعش فيها واستهدفت مراكز مدنية، ما أدى لسقوط عشرات الضحايا المدنيين، وصرح وزير الدفاع الفرنسي، لودريان، بعد أيام أن 90 في المئة من غارات روسيا استهدفت المعارضة المعتدلة وليس داعش، واستمرت روسيا طوال السنوات الماضية على نفس سياستها باستهداف الفصائل المعتدلة والمراكز المدنية لفرض التهجير القسري للسكان.
ولتجنب أي استياء شعبي في روسيا من هذا التدخل، جرى تقليل كلفته الاقتصادية، والادعاء بأنها لا تختلف عن تكاليف المناورات والتدريبات الروتينية بالذخيرة الحية. لكن صحيفة فاينانشال تايمز قدرت إنفاق روسيا على هذه الحرب بنحو 3.2 مليون دولار يوميا، وقال مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية إن سلاح الجو الروسي أنفق قرابة 1.5 مليار دولار في أول سنتين في سوريا. واعتبر معهد ستوكهولم الدولي أن التدخل في سوريا كان السبب الرئيسي في ارتفاع الإنفاق العسكري الروسي 2.8 مليار دولار عام 2016 مقارنة بالعام الذي سبقه.
كما تم الترويج إعلاميا بأن التدخل العسكري في سوريا كان بمثابة دعاية لتسويق السلاح الروسي، وهذا أيضا ليس سوى مبالغة إعلامية، فقد كشف التدخل عن تخلّف هذه الأسلحة. ففي دراسة لمعهد بروكينغز “استخدمت روسيا بعضا من أسلحتها الأكثر تطورا مثل المقاتلة القاذفة سو-34 وصاروخ كاليبر 3 أم-14 ولكن مفعولها كان محدودا، وتأكد ذلك بتكرار اللجوء إلى القنابل الغبية واستمرار خروج أشرطة فيديو عن استخدام عشوائي لقنابل عنقودية في استعمال مروّع للقوة التدميرية”، وكانت آخر المؤشرات على الفعالية المحدودة للسلاح الروسي فشل صواريخ أس 300 وأس 400 الروسية في التصدي للطائرات الإسرائيلية عندما عبرت مئات الكيلومترات لتغير على مناطق في شرقي سوريا مؤخرا. وفوق ذلك فقد خسرت روسيا في سوريا، حسب البيانات الرسمية، 116 عسكري نظامي، وحوالي 200 من مقاتلي الشركات الخاصة و21 طائرة، رغم أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك، فالثقة بمصداقية المصادر الروسية محدودة.
ويواجه التدخل الروسي في سوريا حاليا مشكلتين، الأولى أنه ليس بإمكان روسيا تعويض ما أنفقته هناك، فعائدات عقود استثمار الفوسفات والغاز وميناء طرطوس متواضعة ولا تكفي لتغطية تكاليف الوجود العسكري الروسي. واستيلاء روسيا على هذه الموارد لم يترك للشعب السوري شيئا، مما أدّى مؤخرا لانهيار جديد في قيمة الليرة السورية، ترافق مع تقارير صحفية تحدثت عن فرض إقامة جبرية على رامي مخلوف شريك وابن خال بشار الأسد، ومطالبته بتسديد بعض الأموال، والحجز على أموال عشرات رجال الأعمال، بينهم وزير التربية السابق بتهم مختلفة. ولكن هذه الإجراءات والأموال التي قد تتحصّل منها لن تكون كافية لإحداث أي تغيير ذي قيمة على الوضع الاقتصادي، الذي لا توجد آفاق لتحسّنه على المدى المنظور.
والثانية غياب استراتيجية واضحة المعالم وواقعية للانسحاب من سوريا، بشكل يضمن المحافظة على الامتيازات والمصالح الروسية، لأن هذا يتطلب تسوية سياسية تقبلها أغلبية الشعب السوري والنظام ولا تعارضها الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة، وهذا يبدو مستبعدا على المدى القريب، أي ستستمر روسيا في دفع ثمن اقتصادي وعسكري وسياسي لتدخلها في سوريا، فمع أن التدخل في سوريا قد ساعد بوتين على الترويج لنفسه كزعيم عالمي، وربما تم اختياره لعدة سنوات كرجل العام وأقوى رئيس في العالم، ولكن روسيا دفعت وما زالت تدفع ثمنا باهظا مقابل ذلك.
الكاتب: عماد بوظو