قبل العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، كان الرئيس الراحل، ياسر عرفات، يحذر باستمرار من بلقنة المنطقة. ولم يكن أحد يأخذ تصريحاته على محمل الجد، في وقت كانت فيه الحرب الباردة لا تزال تعمل بجدارة، ولم يصبح كلامه واقعاً، حتى تمت بلقنة البلقان نفسه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان من نتائجه تفكك دولة يوغسلافيا. لم يكن عرفات يعني بتحذيره منطقة البلقان، بل منطقة الشرق الأوسط، التي كان يتوقع له مصيراً مشابها لما عرفته دول البلقان، التي كانت خاضعة للامبراطورية العثمانية، حيث تم تقسيمها وتفتيتها بعد الحرب العالمية الأولى إلى دويلات أصغر، إثنية متعادية ومتحاربة فيما بينها.
ما يعنيه المصطلح بدقة هو نهاية الدولة المركزية، والأمر الذي يهمنا، اليوم، هو المؤشرات الخطيرة إلى اقتراب انهيار الصيغة التي خرج بها اتفاق سايكس-بيكو بين فرنسا وبريطانيا، قبل قرن، بالنسبة لمنطقة المشرق العربي، والتي تم، بمقتضاها، رسم حدود قسرية ضمن إطار إداري وسياسي لكل دولة من الدول الجديدة.
ما يحدث في العراق منذ الاحتلال الأميركي سار في طريق البلقنة، وكان تعبيره الصريح لعبة المحاصصة التي وضع أسسها المندوب السامي الأميركي، بول بريمر، تحت مسمى العملية السياسية. وقد حاولت الولايات المتحدة أن تسوّق التقسيم في صيغ دستورية، لكنها فتحت الأبواب أمام خلافات بين مكونات البلد، قادت، في نهاية المطاف، إلى حروب بين السنة والشيعة، وبين الأكراد والعرب، ووصلت النزاعات عشية اجتياح “داعش” الموصل، قبل عام، إلى حرب بين رئيس الوزراء العراقي في حينه، نوري المالكي، والمكون السني، الأمر الذي فتح الطريق واسعا أمام “داعش“.
نصَّ الدستور العراقي، الذي رعاه الأميركيون، على دولة اتحادية، لكن التطورات منذ عام لم تبق منه سوى مؤسسات شكلية، كرئاسة الوزراء والبرلمان، لا تتجاوز حدود عملها تصريف الأزمات وإدارة النزاعات بين المكونات في حد أدنى، وبضغوط وضوابط أميركية، في حين أن وحدة البلد صارت أمراً بعيد المنال، وزادت في الطين بلة الحروب التي أشعلها وجود “داعش” والتدخلات الإيرانية، والنتيجة أن مجرى التطورات لا يبشر إلا بالأسوأ، وصار جمع العراقيين في بلد واحد حلماً بعيد المنال.
لا يختلف الأمر في سورية، من حيث النتائج، فالتشظي هو السمة العامة للوضع السوري، الذي بات أكثر تعقيداً من نظيره العراقي. فنحن، اليوم، بعد أربع سنوات على الثورة السورية أمام خارطة معقدة ومتداخلة، تبدو أمامها الخارطة العراقية أكثر وضوحا بكثير. في الشمال الشرقي، يوجد الاكراد والنظام و”داعش”. وفي الرقة وبعض مناطق من ريف حلب، يسيطر “داعش”، وحلب المدينة مقسومة بين النظام وفصائل إسلامية. وفي إدلب، فصائل إسلامية بما فيها فرع تنظيم القاعدة (جبهة النصرة). وفي محيط دمشق، فصائل إسلامية. وفي الجنوب، جيش حر وفصائل إسلامية والنظام. وفي السويداء، بقايا النظام وفصائل معارضة. وتتصارع في القلمون جميع الأطراف، بينما دمشق العاصمة والساحل تحت سيطرة النظام، ويضاف إلى ذلك قوات لحزب الله وفصائل عراقية مناصرة للنظام. ويتسم هذا الخليط بسمتين عامتين. الأولى، فقدان التجانس، حتى أن العداء للنظام لا يمكن أن يوحد خصومه. والثانية، أن لكل مكون أجندة خاصة. ولكن مسار الحروب المتنقلة لا بد من أن يُفضي، في نهاية المطاف، إلى بقاء القوى الكبرى، وهي النظام و”داعش” وجبهة النصرة والفصائل الإسلامية والجيش الحر والأكراد، وهذه المكونات لا يمكن أن تتعايش في المدى المنظور، وهي تتقاتل، اليوم، على رسم الحدود فيما بينها.
فوق هذا كله، بتنا اليوم في العراق وسورية نتسابق إلى الهاوية، وصرنا قاب قوسين أو أدنى من وضع قد يكون أسوأ بكثير من بلقنة الامبراطورية العثمانية قبل قرن.
ما يعنيه المصطلح بدقة هو نهاية الدولة المركزية، والأمر الذي يهمنا، اليوم، هو المؤشرات الخطيرة إلى اقتراب انهيار الصيغة التي خرج بها اتفاق سايكس-بيكو بين فرنسا وبريطانيا، قبل قرن، بالنسبة لمنطقة المشرق العربي، والتي تم، بمقتضاها، رسم حدود قسرية ضمن إطار إداري وسياسي لكل دولة من الدول الجديدة.
ما يحدث في العراق منذ الاحتلال الأميركي سار في طريق البلقنة، وكان تعبيره الصريح لعبة المحاصصة التي وضع أسسها المندوب السامي الأميركي، بول بريمر، تحت مسمى العملية السياسية. وقد حاولت الولايات المتحدة أن تسوّق التقسيم في صيغ دستورية، لكنها فتحت الأبواب أمام خلافات بين مكونات البلد، قادت، في نهاية المطاف، إلى حروب بين السنة والشيعة، وبين الأكراد والعرب، ووصلت النزاعات عشية اجتياح “داعش” الموصل، قبل عام، إلى حرب بين رئيس الوزراء العراقي في حينه، نوري المالكي، والمكون السني، الأمر الذي فتح الطريق واسعا أمام “داعش“.
نصَّ الدستور العراقي، الذي رعاه الأميركيون، على دولة اتحادية، لكن التطورات منذ عام لم تبق منه سوى مؤسسات شكلية، كرئاسة الوزراء والبرلمان، لا تتجاوز حدود عملها تصريف الأزمات وإدارة النزاعات بين المكونات في حد أدنى، وبضغوط وضوابط أميركية، في حين أن وحدة البلد صارت أمراً بعيد المنال، وزادت في الطين بلة الحروب التي أشعلها وجود “داعش” والتدخلات الإيرانية، والنتيجة أن مجرى التطورات لا يبشر إلا بالأسوأ، وصار جمع العراقيين في بلد واحد حلماً بعيد المنال.
لا يختلف الأمر في سورية، من حيث النتائج، فالتشظي هو السمة العامة للوضع السوري، الذي بات أكثر تعقيداً من نظيره العراقي. فنحن، اليوم، بعد أربع سنوات على الثورة السورية أمام خارطة معقدة ومتداخلة، تبدو أمامها الخارطة العراقية أكثر وضوحا بكثير. في الشمال الشرقي، يوجد الاكراد والنظام و”داعش”. وفي الرقة وبعض مناطق من ريف حلب، يسيطر “داعش”، وحلب المدينة مقسومة بين النظام وفصائل إسلامية. وفي إدلب، فصائل إسلامية بما فيها فرع تنظيم القاعدة (جبهة النصرة). وفي محيط دمشق، فصائل إسلامية. وفي الجنوب، جيش حر وفصائل إسلامية والنظام. وفي السويداء، بقايا النظام وفصائل معارضة. وتتصارع في القلمون جميع الأطراف، بينما دمشق العاصمة والساحل تحت سيطرة النظام، ويضاف إلى ذلك قوات لحزب الله وفصائل عراقية مناصرة للنظام. ويتسم هذا الخليط بسمتين عامتين. الأولى، فقدان التجانس، حتى أن العداء للنظام لا يمكن أن يوحد خصومه. والثانية، أن لكل مكون أجندة خاصة. ولكن مسار الحروب المتنقلة لا بد من أن يُفضي، في نهاية المطاف، إلى بقاء القوى الكبرى، وهي النظام و”داعش” وجبهة النصرة والفصائل الإسلامية والجيش الحر والأكراد، وهذه المكونات لا يمكن أن تتعايش في المدى المنظور، وهي تتقاتل، اليوم، على رسم الحدود فيما بينها.
فوق هذا كله، بتنا اليوم في العراق وسورية نتسابق إلى الهاوية، وصرنا قاب قوسين أو أدنى من وضع قد يكون أسوأ بكثير من بلقنة الامبراطورية العثمانية قبل قرن.
العربي الجديد – بشير بكر