كُلفت، ذات يوم، بمهمةٍ في القصر الجمهوري، لتغطية زيارة يقوم بها كل من أمين عام جامعة الدول العربية، الشاذلي القليبي، وعضو مجلس قيادة الثورة الليبي، عبد السلام جلود، للرئيس حافظ الأسد.
ما يميز جهاز الإضاءة السينمائي أن له لمبتين مثبتتين ضمن جهاز ثقيل، يُحمل باليد، وتُشَغَّل اللمبة الأولى، ثم تبدل بالثانية، تحاشياً لانفجارها بسبب ارتفاع حرارتها. وهذه المعلومة لم أكن أعرفها وقتئذ.
دخلنا القصر، للتصوير، وكان مصوّر الفيديو قد حضر وليس معه مساعد. لذلك، طلب مني عدم إطفاء الإضاءة ليستفيد هو منها.
وبينما أنا أحمل جهاز الإضاءة الثقيل، والإعلاميون كل في مكانه المحدّد له، وإذا بصوت يزعق مثل الطلق الناري من فوق أذني! ولم أدرك أنه من جهازي. ومع ذلك، فقد رميته على الأرض ورفعتُ يديَّ الاثنتين إلى الأعلى، كناية عن الاستسلام… ولكن، وخلال ثوانٍ قليلة، تقدّم نحوي حائط من الرجال، وشكلوا سداً بيني وبين حافظ الأسد الذي أجفل هو الآخر من شدّة الصوت، وأذكر أن العقيد خالد الحسين نزل فوقي، وحملني من رقبتي ورفعني عن الأرض.
أحسست، لحظتئذٍ، بانعدام الجاذبية، ورأيتُ، بعينين مغبشتين، العقيد خالد وهو يسلمني لجماعة الصالة، وجماعة الصالة سلموني للجماعة التي تتولى أمر المصعد، وهؤلاء أنزلوني إلى الطابق الأرضي، وهو مكانٌ مخصّص لرمي النفايات بشكل مؤقت، قبل أن تُرَحَّل خارج القصر (كما شرح لي أحد الأصدقاء فيما بعد).
المهم، أوصلوني إلى غرفة فيها بضعة كراسٍ وصوفاية، وجلست في المكان الذي أوصلتني إليه آخر يدٍ من الأيدي التي كانت تتناوب على دفعي. وبدأ الفيلم الحقيقي الذي لا يُصَوَّرُ عادة: واحد يدخل ويضرب، وواحد يلكز ويخرج، والكل يزعق ثم يخفض صوته ويقول: قول الحقيقة ولا تخاف! ولأن لساني كان عاجزاً عن قول أي كلام، فقد كانوا يتابعون عملهم بالصفع والرفس وضرب البوكس مع السباب لأهلي.
بقيت على هذه الحالة حوالي الساعتين، ربما أكثر، حتى جاء شخصٌ، عرفت فيما بعد أن اسمه سهيل. لم أعرف رتبته، لأنه بثيابٍ مدنية. اختتم سهيل الحفل بضربات أقل وسباب أكثر تم التركيز فيه على والدتي وحدها، مع أن سابقيه سبّوا على شقيقاتي. واختتم شغله بتهديد صريح وواضح لي إن أنا قبلتُ بالمجيء إلى القصر في أية مهمةٍ لاحقاً، بأنه سيقطع رجليَّ الاثنتين.
بصراحة، كنت أنتظر هذه القفلة، فظهر الفرح على وجهي المدمّى، لكن فرحتي لم تكتمل إذ جاءتني لبطة مفاجئة منه قذفتني نحو الباب الرئيسي. فانطلقت بسرعة تفوق سرعة العدّاء سعيد عويطة، (المغربي حامل الميدالية الذهبية في الجري آنذاك) راكضاً نحو مبنى التلفزيون.
وصلت إلى المبنى، وعند مفرزة الأمن القريبة من الباب، أخبروني أن علي مراجعة المدير العام.
دخلت مكتب المدير العام، وحاولتُ أن أتكلم وأشرح له الموقف، فقال لي:
خلص خلص، فهمنا، انحرقت معك اللمبة. لكن، هل كان من الضروري أن تحرق السجادة كمان؟
كان المدير العام ابن بلدي، وبعد هذا التوبيخ شعرت بوصولي إلى الأمان. وبدأت أشعر بألم بتلك اللكمات والرفسات، وما خلفته من كدماتٍ في كل أنحاء رأسي وجسدي.
قال لي: ادخل لجوة، يوجد مغسلة ومراية. رتب هندامك وغسّل وجهك.
امتثلتُ لرغبته، ودخلت. وبينما أنا أغسل وجهي، لامستْ يدي شيئاً قاسياً عالقاً بشفتي العليا. أمسكتُ به، قربتهُ من عيني اليسرى التي ما تزال مفتوحة بينما اليمنى مغلقة تماماً، وإذا هو أحد أسناني الأمامية، وقد اقتلع، على ما يبدو، برفسةٍ من أحد البغال الذين يحرسون حافظ الأسد.
العربي الجديد – خطيب بدلة