خمس دقائق فقط هي المدة الفاصلة بين المواطن جميل الشاعر من مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، للوصول إلى ابنته علياء المتزوجة من ابن شقيقته في مدينة رفح المصرية، ولكن بسبب الشريط الحدودي، وإغلاق معبر رفح بشكل كامل منذ يونيو من العام 2013.
تجاوزت تلك المدة سنوات العمر، وأصبح اللقاء بينهما حلماً بعيد المنال، فلم يحتضن جميل ابنته منذ 4 أعوام، فالمعبر الفاصل بين المدينتين إما مغلق لفترات متباعدة، تصل إلى 4 شهور متواصلة، أو مزدحم بآلاف الحالات الطارئة، عندما تفتحه السلطات المصرية لفترات استثنائية ومؤقتة لا تتجاوز 3 أيام، بالإضافة إلى تحديد أعداد المسافرين خلال تلك الفترات، بحيث لا تتجاوز ألف مسافر.
عرس الأنفاق
علياء تزوجت ابن خالتها في عام 2010، حيث تقدم إلى خطبتها في رفح الفلسطينية، قادماً من الجزء الثاني للمدينة في الأراضي المصرية عبر الأنفاق الحدودية، فيما أقاموا حفل الزفاف في منزل العريس بعد انتقال عروسه أيضاً عبر الأنفاق.
وكانت الأنفاق المقامة على طول الشريط الحدودي بين غزة ومصر البديل المؤقت لإدخال كل أنواع البضائع، وتنقل المواطنين بين المنطقتين منذ عام 2007، ولكن في عام 2014 توقف عمل الأنفاق بشكل كامل، وذلك بعد إغلاقها وهدمها من قبل الجيش المصري، بقرار من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
اللقاء تحت الأرض
“هافينغتون بوست عربي” زارت منزل جميل الشاعر في أحراش مدينة رفح، والذي يبعد عن السياج الحدودي مع مصر 200 متر، فيما يظهر منزل ابنته واضحاً من أعلى سطح منزله، فالمسافة الفاصلة بين المنزلين لا تتجاوز 500 متر.
بالقرب من منزل الشاعر يوجد عدد كبير من الأنفاق الحدودية، التي تحولت إلى منطقة أمنية مغلقة، فكل الأنفاق هدمت ودمرت بالمعدات والبضائع التي كانت تحتويها، وهذا ما لاحظناه خلال وجودنا في منطقة الشريط الحدودي، والذي كان يشهد سابقاً حركة دؤوبة لآلاف العاملين في مئات من الأنفاق التي تحولت إلى معابر خلال السنوات الماضية.
حيث كانت الأنفاق الوسيلة البديلة لسكان مدينة رفح بشقيها لمشاركة الأقارب في الأفراح والمناسبات المختلفة.
يقول الشاعر وهو ينظر إلى منزل ابنته من أعلى سطح منزله الحدودي، إن الأنفاق قبل أن تتوقف عن العمل “كانت منفذنا الوحيد والبديل بفعل الإغلاق المتكرر والطويل لمعبر رفح. لم نشعر خلال تلك الفترة بالحرمان، أو ببعد المسافات بيننا، فخلال 5 دقائق كنت أمر عبر النفق، لأكون في منزل ابنتي، وأقضي أياماً عديدة هناك، وخاصة في الأعياد والمناسبات السعيدة”.
وأوضح أنه كانت عائلات المدينة المقسمة تتنقل بين غزة ومصر عبر الأنفاق بسهولة، وكانوا يشاركون بعضهم البعض في كافة المناسبات السعيدة، وكذلك المواقف الطارئة والحزينة.
وفي بداية عمل الأنفاق كانت تكلفة انتقال الفرد عبر نفق يتراوح طوله من 200 إلى 700 متر، حوالي 100 دولار، ولكن بعد زيادة عدد الأنفاق، وارتفاع أعداد المواطنين المتنقلين، أصبح المرور شبه مجاني.
الوسائل البديلة
بعد تعقد آلية الانتقال بين شطري المدينة، لجأ الشاعر والمئات من العائلات التي ينقسم أفرادها بين رفح المصرية والفلسطينية إلى استخدام شرائح الهواتف النقالة المصرية التي كانت تهرب عبر الأنفاق الحدودية، أو يجلبها القادمون إلى القطاع عبر معبر رفح، بالإضافة إلى الوقوف على أسطح المنازل في المنطقتين لرؤية بعضهم البعض عن بعد.
قال الشاعر “عندما نرى بعضنا البعض عبر أسطح المنازل تكون تلك اللحظات مؤثرة، وتختلط فيها مشاعر متناقضة.. بين فرحة اللقاء وإن كان سريعاً، والحزن، وتجدد الأوجاع لعدم تمكني من احتضان ابنتي، والحديث معها عن قرب، لفترة أطول”.
ويوضح الشاعر في حديثه لـ “هافينغتون بوست عربي”، أن شرائح الاتصالات المصرية تكلفتها قليلة جداً، وتكون ملاذهم الوحيد في ظل تفاقم أزمات انقطاع الكهرباء في غزة، والتي تستمر أكثر من 20 ساعة يومياً، ما يحرمهم من تشغيل الإنترنت للتواصل عبر الشبكات الاجتماعية.
زيادة الحرمان
وإذا كان جميل الشاعر يتمكن من رؤية ابنته ولو مؤقتاً من خلال سطح منزله، فإن المواطن الفلسطيني عادل زعرب- 45 عاماً- حرم من مشاهدة أخته أم أحمد تماماً بعد هدم منزلها، وترحيلها من رفح المصرية في نهاية عام 2014.
فقد قامت قوات الجيش المصري خلال تنفيذها الحملة الأمنية لإغلاق الأنفاق الحدودية في ذلك الوقت، بهدم العديد من منازل المواطنين في رفح المصرية، والتي تأثرت نتيجة عمليات تجريف الأنفاق، ما اضطرهم إلى الرحيل إلى مدينة العريش المجاورة.
وهكذا ازداد الوضع صعوبة، إذ أن المنطقة التي انتقلت إليها شقيقة زعرب في العريش تبعد أكثر من 50 كيلو متراً عن منزله في رفح الفلسطينية، بعد أن كانت المسافة بينهما لا تتعدى 500 متر.
يقول زعرب لـ”هافينغتون بوست عربي” والدموع تملأ عينيه، “كنت أصبر نفسي أنا وأشقائي برؤية شقيقتنا في رفح المصرية عبر أسطح المنازل، أو من خلال المرور عبر الأنفاق، وكنا نتشارك كافة اللحظات التي تمر في حياتنا اليومية، فقد حضرنا غالبية أفراح أبناء شقيقتي داخل الأراضي المصرية، وكانت لحظات سعيدة ومؤثرة”.
ويضيف، أن أبناء شقيقته كانوا في السنوات السبع التي تنقلنا فيها عبر الأنفاق يكبرون أمام أعينهم، وتربوا بينهم، و”زاروا مدينة والدتهم وجدهم في غزة، وفور وصولهم إلى رفح الفلسطينية كانوا يطلبون منا زيارة أخوالهم وخالاتهم، وكل أقاربنا، والتنقل بين مدن ومناطق قطاع غزة”.
تسبب إغلاق الأنفاق التي كانت تعتمد عليها عائلة زعرب وكثير من عائلات مدينة رفح في تعقيد حياتهم، وأحدث شرخاً كبيراً بين تلك العائلات المنقسمة، والتي هي بالأساس جزء واحد.
ويتابع زعرب إن إغلاق الأنفاق زاد من معاناة البعد والحرمان التي نتجرع مرارتها، ففي عام 2014 “لم تتمكن شقيقتي من زيارة والدتي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، فحرمت من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على والدتها، والمشاركة في تشييع جثمانها، والبقاء مع أشقائها في محنتهم القاسية”.
المصدر:هافينغتون بوست عربي