إن أقل ما يقال عن السياسة الروسية اليوم, أنها سياسية مفروضة بالقوة والإجبار, بل لم تعد تعبر عن المعنى الحقيقي لهذه الكلمة فعلياً وذلك في العديد من تفاصيلها, فالسلك الدبلوماسي الروسي اليوم تحول إلى عقبة حقيقية في وجه أي مشروع للتفاهم على قضية ما مع المجتمع الدولي دون أن يقدم المبررات على الطريقة “الدبلوماسية التي ينتهجها” والتي تعتبر الواجهة الأساسية لأي مشروع سياسي.
فالقضايا العالقة في العالم والتي تعتبر روسيا طرفاً أساسياً فيها, هي قضايا بدأت تنحو نحو حرب باردة شاملة وقد تكون ساخنة في بعض المناطق, وتساهم روسيا في الدفع باتجاه نشوب هذه الحرب بشكل واضح, بعيداً عن الطرق السياسية المعهودة, فهي اليوم لا تحترم قرارات الشرعية الدولية ومجلس الأمن والأمم المتحدة, بل تزيد من حجم تعنتها الواضح في التوصل لأي تسوية في أي منطقة من المناطق التي تعتبر روسيا نفسها دولة وصاية عليها.
وفي مقدمة الملفات التي تُظهِر التعنت السياسي والدبلوماسي الروسي الملف السوري, والملف الأوكراني والملف الجورجي, صحيح أن التعنت الروسي يبدو جليا في الملف السوري تحديدا إلا أن “القياصرة الروس الجدد”, يحاولون الربط بين هذه الملفات جميعا من خلال التعنت والتمسك بالموقف غير المبرر لهم سياسيا في أحد هذه الملفات وأحيانا جميعها بهدف الحصول على مقايضات ومكاسب سياسية ومادية مع من تراهم روسيا أعداء لعودة دورها المتنامي في إحداث توازن دولي على الأرض من جديد, وإعادة بعث المارد السوفييتي الذي انهار سابقا.
وفي سورية بشكل خاص, تحول التدخل الروسي في سورية إلى عدوان حقيقي على البشر والمدنيين, فروسيا اليوم تعلن صراحة وبعيداً عن التعرجات في الطرق السياسية أنها تريد بقاء النظام في سورية, وتحاول بكل ما أوتيت من قوة إنعاش هذا النظام وقد نجحت بذلك لدرجة كبيرة, وخصوصا بعد أن ساهمت في إعادة مدينة حلب لسلطة قوات النظام من جديد عن طريق دعمها العسكري اللا محدود وتسخير أسطولها البحري والجوي خدمة لهذه الغاية.
والمشهد السياسي الوحيد الذي يبدو حاضراً في السياسة الروسية في سورية, هو التقارب الروسي-التركي والذي ساهم بشكل كبير في ما يسمونه الروس إنهاء الصراع في حلب, أما بقية المشاهد فهي لا تعبّر إلا عن تعنت روسي واضح من خلال القفز فوق جميع القوانين الدولية لمساعد نظام ديكتاتوري في قتل شعبه والمشاركة معه عسكريا في ارتكاب جرائم الحرب بحق المدنيين.
ولكن قد تبدو رمزية الملف السوري تمسكه روسيا بشكل كامل, هي أكثر حساسية من بقية الملفات التي ذكرناها سابقا, باعتبار أن الشعب السوري هو شعب مسلم, ويتعرض للقتل والتهجير القسري وبمشاركة عسكرية كبيرة من قبل الروس وآلتهم العسكرية, والمعروف أن الشعوب المسلمة تتضافر مع بعضها وتقف ولو بالكلمة إلى جانب بعضها البعض كحد أدنى, لذلك يبدو أن هذا العدوان الروسي الواضح على الشعب السوري قد سبب نقمة كبيرة وغضباً متزايدا من الشعوب المسلمة تجاه الدولة الروسية ورعاياها, وكانت حادثة مقتل السفير الروسي “أندريه كارلوف” من قبل الشرطي التركي “مولود ألطن طاش” في أنقرة هي إحدى نتائج هذه السياسة الروسية تجاه الشعب السوري.
وبعيداً عن كل التحليلات ووجهات النظر والاتهامات المسبقة عن الجهات التي تقف وراء هذه العملية التي قد تكون تستهدف الموقف الروسي, أو هي رسالة للتقارب التركي – الروسي, أو هي حادثة انتقام فردية, أو كما قالت الخارجية الروسية في بيانها عقب الحادثة أنه عمل “إرهابي” منظم.
لماذا لا نسأل أنفسنا السؤال التالي:
هل كانت حادثة مقتل السفير, هي نتيجة طبيعية لنقمة شعوب العالم الإسلامي على السياسة الروسية العدوانية تجاه شعب مسلم في سورية؟
يبدو هذا الطرح منطقياً إلى حد بعيد, وان استمرت روسيا في سياساتها العدوانية وإتباع أسلوب الدولة المحتلة في سورية, قد يسبب هذا الأمر تداعيات أكبر في الأيام القادمة ضد مصالح الروس مع الشعوب العربية والإسلامية.
تُرى هل يرى الرئيس الروسي “بوتين” أن مصلحة روسيا الحقيقية هي بالوقوف ضد إرادة الشعوب حتى ولو كلفه ذلك موجة عداء كبيرة وغير منتهية؟
من الممكن أن تعيد القيادة الروسية حساباتها بهد هذه الحادثة, وقد يكون الرئيس “بوتين” قد فهم رسالة مفادها أن غضب الشعوب لا يحتمل, لذلك هو يحاول استدراك الموقف من خلال دعوته للرئيس الإيراني حسن روحاني في اتصال هاتفي, أنه من الضروري العمل على وقف شامل لإطلاق النار في سورية, وفرض تسوية سياسية على جميع الأطراف, وفي محادثة أخرى مع الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” عبر فيها “بوتين” عن رغبته في استمرار التعاون بين البلدين وأن حادثة مقتل السفير تهدف إلى إفشال هذا التعاون الذي يرمي إلى إيجاد حل سياسي للصراع الدائر على الأرض السورية, وقد يكون هذا الطرح بعيداً عن تفكير بوتين ويذهب بمغامرة أبعد من ذلك ويمكن لها في لحظة فارقة أن تخرج عن دائرة حساباته! والقادم سيكشف ذلك..
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود