كان الدوري الأقوى والأمتع في العالم، وكانت أنديته تهيمن على البطولات القارية ولا صوت يعلو فوق صوتها، فهي الأكثر شعبية عند عشاق المستديرة، تغنى به “مارادونا”، و”بيليه” و”بلاتيني” وعظماء كثيرون، حتى أُطلق عليه “جنة كرة القدم”.
هو الدوري الإيطالي أو كما يسمى عالميًا الـ “كالتشيو” ذلك الدوري الذي كان سابقًا يحتل المركز الأول بين الدوريات الخمسة الكبرى متفوقًا على نظرائه في إسبانيا وإنجلترا وألمانيا، اليوم أصبح رابعًا في تصنيف الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، بعد أن عرف تراجعًا كبيرًا في شعبيته وانخفض عدد متابعيه حتى باتت حقوق بثه الأقل سعرًا عائداتٍ بين الدوريات السابقة، لكنه من دون شك لا يزال الأول في نظر عشاقه وهم كثر.
لكن وخلال هذا الصيف راحت ترتسم ملامح جديدة تنبىء بعودة البريق لهذا الدوري، فانشغلت الأوساط الرياضية بصفقات ميلان الكبرى وخصوصًا الصفقة الأخيرة التي بات بموجبها قلب دفاع يوفنتوس “ليوناردو بونوتشي” لاعبًا للفريق اللومباردي، وهذه الخطوة إن دلّت على شيء فهي تدل على أن خارطة كرة القدم الإيطالية في طريقها للتغيير.
هذه الخطوات التي يقوم بها ميلان حالياً سار عليها إنتر في الموسم السابق، وسبقهما إليها يوفنتوس من قبل، والجميع يعرف قيمة هذا الثلاثي وماذا تمثل عودته لسابق عهده بالنسبة للكرة الإيطالية.
ومع الانتعاش الذي تمرّ به أندية مثل روما ونابولي، بدأ عشاق الدوري الإيطالي يستبشرون خيرًا بعودة جنة كرة القدم إلى الحياة، فهل من الممكن أن يحدث ذلك؟
جدارة باللقب
لكل بطولة من دوريات أوروبا الكبرى هويتها الخاصة، فالدوري الاسباني دوري المهارات والسرعة، والانجليزي دوري القوة واللياقة، أما الدوري الإيطالي (حاليًا) فهو يعتمد بشكل كبير علي الخبرة والنواحي التكتيكية العالية، ولكن إذا تحدثنا عن جنة كرة القدم التي كانت تجمع كل هذه الخصائص فإن إيطاليا كانت الأحق بهذا اللقب ولا شك.
لقد كان الدوري الإيطالي يقدم أشهى “الوجبات” الكروية لعشاقه حول العالم، ولمَ لا وصانعو هذه المتعة هم “دينو زوف”، “مارتشيلو ليبي”، “كارلو أنشيلوتي”، “جوفاني تراباتوني”، و”فابيو كابيلو”، لمَ لا والأقدام التي تجري على ملاعبه هي أقدام “باجيو”، “ديل بييرو”، “بيرلو”، “زيدان”، “توتي”، “فان باستن”، والظاهرة “رونالدو” مع “خوليت” و”ريكارد” وأسماء كبيرة أخرى لا يسعنا تعدادها.
وأما من كان يعشقه القوة والصلابة فيكفي أن يعرف أن أسماءً مثل “مالديني”، “نيستا”، “ستام”، “كانافارو”، “كافو”، “تورام”، “زانيتي” و”زامبروتا” كانت موجودة على أرض الملعب.
أسباب التدهور
أخذ بريق الدوري الإيطالي بالتلاشي رويدًا رويدًا بعد عام 2006 الذي أضاف خلاله الطليان نجمةً رابعة على قمصان منتخبهم عقب نيلهم كأس العالم في ألمانيا. ورغم أن نادي ميلان أحرز لقب دوري أبطال أوروبا في العام التالي، وتمكن جاره إنتر من تكرار الإنجاز ذاته بعد ثلاث مواسم في 2010، إلا أن هذا اللقب الأخير تبعه سبع سنين عجاف حاول خلالها يوفنتوس حفظ ماء وجه الأندية الإيطالية لكن دون جدوى.
ولعل أهم أسباب هذا التحول عدم مواكبة الكرة الإيطالية والمسؤولين عنها من رؤساء الأندية والاتحاد للتطور الكبير الحاصل في كرة القدم، كما أن تجاهل المواهب الشابة الإيطالية وعدم الاهتمام بها وتوفير الرعاية والدعم الفني والمعنوي والمادي أدى إلى تدميرها وهي فى مهد النجومية، وفيما أمّن هروب “ماركو فيراتي” إلى باريس سان جيرمان له النجاح و التطور، فإن مواهب أخرى عاشت المرحلة نفسها مثل “الشعراوي” و”أندريا رانوكيا” و”سيباستيان جيوفينكو” وغيرهم من خامات، كان يُنظر إليها على أنها أساطير قادمة ولكن مع فقر الإمكانيات والدعم اختفت بشكل محزن.
ويضاف إلى هذه العوامل الرياضية الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد والتي لعبت دورًا أساسيًا في تدهور دوري الكرة.
بداية العودة
في كرة القدم لا يوجد المستحيل سواء داخل أرض الملعب أو خارجه، وما جرى من أحداث سابقة في التاريخ خير دليل، فبالرغم من تأخر الكرة الإيطالية كثيرًا عن مثيلاتها في أوروبا إلا أنها ما تزال تملك التربة الخصبة التي تجعل من عودتها أمراً قابل التحقيق.
وإذا نظرنا إلى يوفنتوس وما حققه في المواسم الماضية نجد أن ما وصل إليه لم يكن وليد الصدفة، ولكنه تحقق بعد تخطيط وصبر، بعدما أدرك القائمون على ليوفي أنه لا نجاح لهم على الصعيد الأوروبي إلا بعودة قوية محليًا ثم مواكبة التطور الخالص في عالم كرة القدم.
ومن أهم الطرق المؤدية إلى التطور في الكرة الإيطالية وعودتها بقوة على المستوى العالمي، السماح للأجانب باستثمار أموالهم مع الأندية داخل إيطاليا كما هو الحال في إنجلترا، وهو الأمر الذي كان غير مسموحًا به وفق القوانين المعمول بها في بلاد “البيتزا”، لكن وبعد إفساح المجال أمام المستثمر الأجنبي كان روما أول المستفيدين من ذلك، وبدا واضحًا حجم التطور في نادي العاصمة أكان على الصعيد الاقتصادي أومستوى نتائج الفريق محليًا.
وبعد روما كان لا بد لهذه التجربة أن تتوسع خصوصًا مع وجود أندية كبيرة في إيطاليا تتمتع بشعبية واسعة حتى خارج البلاد، الأمر الذي دفع أباطرة المال من قارة آسيا إلى الدخول في استثمارات ضخمة بدأت نتائجها تظهر على ناديي ميلان والإنتر، وهذه النتائج قد نراها حاضرة في أندية أخرى مع اقتراب نادي جنوى من الدخول ضمن خطط الاستثمار.
ورافق التحسن الاقتصادي للأندية الإيطالية عمل على إعادة إحياء قطاع الشباب وتطويره لاحقًا، لنشاهد نادي إنتر ميلان يصرف هذا الصيف أكثر من 100 مليون يورو على جلب مواهب معظمها من إيطاليا، وكذلك فعل يوفنتوس الذي بات يمتلك الآن قاعدة ضخمة من اللاعبين لا تتجاوز أعمارهم 19 ربيعًا، لتبدأ مرحلة عودة الثقة بهذه المواهب ليس في إنتر وليوفي وحسب بل لدى جميع الأندية الكبرى والصغيرة.
دور الاتحاد الرياضي
مع أن لقب “جنة كرة القدم” عاد ليتردد من جديد على مسامع عشاق الـ “كالتشيو”، فإنه لا يمكن للكرة الإيطالية أن تتدارك ما فاتها إلا عبر العمل الكبير والمتابعة وإعادة التنظيم والقيام بمشاريع، وهذه الأمور التي ما تزال تنقص الاتحاد الإيطالي لكرة القدم إذ يجب التحرك والتعلم من تجارب الدول الأخرى مثل ألمانيا التي تسيطر على كل الألقاب الدولية، وهناك التجربة البلجيكية التي وضعت منتخبها بين أقوى المنتخبات العالمية وهو الذي لم يكن له تاريخ يذكر في كرة القدم.
على مسؤولي اتحاد الكرة الإيطالية استنساخ تلك التجارب إذا أرادوا تكرار أساطير مثل “توتي” و”ديل بييرو” مرة أخرى، كما أن تقديم التسهيلات والتخفيف من حجم الضرائب التي تفرض على ما تقوم به الأندية من استثمارات سيضمن للفرق الكبرى و الصغيرة النجاح رياضيًا و تجاريًا في المستقبل، مع مواصلة محاربة الفساد الذي ساهم أيضًا في تراجع الطليان على الساحة الكروية لما سببه من سوء سمعة أضرت كثيرًا بتقدم الكرة الإيطالية إلى الأمام.
صدى الشام