تمزقت مجتمعات كثيرة قبل مجتمع السوريين، بعضها بسبب حروب وبعضها بسبب ثورات، لكنها عادت ونهضت مجدداً، وتبدو هنا تكلفة النهوض كأنها فاتورة إجبارية لا بدّ من دفعها لأجل هذا النهوض. فالتاريخ ليس طريقاً رومانسياً هادئاً تبنيه كلمات الشعراء، إنما صراع مصالح وبحث دائم عن استراتيجيات لحماية تلك المصالح، صراع يطحن في طريقه آلاف البشر، لا بل أحياناً يطحن الملايين.
عندما خرج السوريون في منتصف آذار (مارس) 2011، مطالبين بحريتهم، كانوا يدركون سلفاً أن هناك ثمناً كبيراً سيدفعونه، لكنهم ربما كانوا لا يعرفون مقدار هذا الثمن، مع أن مطالباتهم كانت في بدايتها إصلاحية ولم يكن قد طرح بعد في الشارع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام».
بشار الأسد ومثل كل الطغاة السابقين، قابل الكلمة بالرصاص، وردّ على التظاهرات بالدبابات، ولا يزال يفعل ذلك مع تطور هائل في استخدام الأسلحة وصل إلى الكيماوي والقنابل العنقودية، وفوق ذلك احتلال عسكري إيراني وروسي لسورية.
وعندما تحولت طرقات سورية إلى حواجز أمنية وعسكرية، خطّ عناصر الأسد على أحجار الحواجز شعار النظام «الأسد أو نحرق البلد»، وتحوّل بعد حين إلى «الأسد ونحرق البلد».
ضمن هذا الجحيم الدموي، مرّت أيام تفاوض بين المعارضة السورية ولجان تمثل النظام، في مسلسل جنيف، وكان إحساس أي سوري في تلك الأثناء أن الأسد شعاره واضح ومرفوع ومعلن.
بعض بائعي الأوهام الدوليين كانوا يرددون على مسامع الإعلام أن الحل في سورية هو حل سياسي، وهذا التعبير بالذات، أي «الحل سياسي» كان يعني للنظام المزيد من البراميل والقصف والاعتقال، وكلّ ما يفعله النظام حتى الآن أنه يقول للعالم أجمع «الأسد ونحرق البلد».
نعم هذا الشعار المرعب هو سياسة النظام واستراتيجيته وهو كل ما لديه، ولا يمكن، وفق بنيته الأمنية والعسكرية والمافيوية، أن يملك من السياسة غير القتل والاعتقال، حتى لو بقي الأسد مسيطراً فقط على حيّ المهاجرين.
من هنا، يمكن لنا أن نقرأ كل دلالات المقابلات الإعلامية مع الأسد، حيث تقول في الجوهر: «أنا سورية، أنا النظام، أنا الدولة» وما تبقى من الشعب إما معي أو إرهابي.
قرارات أممية عدة غير ملزمة، صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة، قرارات عربية من جامعة الدولة العربية صدرت عن مجلس الجامعة، كلها رماها الأسد في أقرب حاوية في قصره، ولو سألت أي سوري لقال لك كل هذه القرارات عند الأسد «حقها فرنك».
لا شكّ في أن مأساة السوريين وكارثتهم هائلة، لا بل هي مأساة العصر، ولا شك في أن خلافات المعارضة السياسية وانقساماتها مخجلة ومقرفة إذا ما قورنت بحجم الضحايا والدمار، ولا شك في أن هناك في العالم من هو صادق من الشعوب وبعض الأنظمة ويريد لسورية الحرية والسلام والخلاص من الطاغية. لكن ما هو مؤكد وبعد نهر الدم المستمر بالتدفق، أن الحل في سورية لا يمكن أن يكون إلا عسكرياً، وكل كلام عن الحل السياسي يقع في باب الترهات. وزيارة واحدة للحواجز في شوارع دمشق أو شوارع أي مدينة يسيطر عليها النظام ورؤية مقدار الرعب والخوف في وجوه الناس، سيجعل أي إنسان يدرك أن الطغاة لا يمكن إزاحتهم بالسياسة.
وفي ظلّ روع هذه اللحظة السورية ومأساتها، يتابع نظام الأسد ابتكارات إذلاله السوريين، ويصرّ عبر دموية غير مسبوقة في التاريخ، على أنه هو من سيعمّر البلد بعد أن ينتصر على الإرهاب، ويخترع منذ 2012 لأجل ذلك طابع «إعادة الإعمار» يدفعه السوريون كضريبة في معظم معاملاتهم اليومية.
فستالين وهتلر لو أفاقا من موتهما لقالا لبشار الأسد: لقد سبقتنا في «طابع إعادة الإعمار» هذا.
الحياة – مصطفى علوش