خمسة أعوام ونصف مرت على انطلاقة الحراك الثوري في سوريا في منتصف آذار/مارس من عام 2011، قدم من خلاله السوريون شتى أنواع التضحية بكافة الوسائل المتاحة لهم، في سبيل الحرية والكرامة التي كانت أولى مطالبهم منذ انطلاقة ثورتهم.
أبو محمود رجل من داريا أكبر مدينة في غوطة دمشق الغربية، صاحب الستين خريفاً من العمر، غزا الشيب رأسه وتستطيع تجاعيد وجهه أن تحكي قصة حصار دام ما يقارب الأربع سنوات على مدينته التي تعيش أقسى ظروف الحياة الممكن تخيلها، في ظل انقطاع لكافة سبل العيش من طعام وماء ودواء وغير ذلك من الأمور المعيشية الضرورية.
يعمل أبو محمود في مهنة الحلاقة، يكسب قوته من تلك المهنة ليسد رمق زوجته وأحفاده فابنه الوحيد محمود قضى بقصف للطائرات الحربية السورية على المدينة وخلف له ثلاثة أطفال وأمهم، لا تفي تلك المهنة بالغرض فيعتمد أبو محمود في تأمين غذاء زوجته وأحفاده على المعونات القليلة وشبه المعدومة التي تدخل بين الحين والآخر للمدينة.
في منزل صغير في ” عاصمة البراميل المتفجرة ” كما أطلقت الأمم المتحدة على مدينة داريا، يعيش أبو محمود مع ذكريات ابنه وخياله الذي لا يفارق ذهنه للحظة واحدة، خاصة عندما يرى أبناءه أمام عينيه وهم يركضون ويلعبون مع ابتسامة تخفي خلفها حزناً وألماً لما يعيشونه من أحداث في كل يوم.
وكعادته أنهى أبو محمود عمله قبل عصر اليوم، أغلق محله وحمل ربطة الخبز التي اشتراها صباحاً من أحد الأفران القريبة من دكانه وسلك طريقه عائداً لمن ينتظرونه في المنزل وهم جياع، ولم يكد يصل إلى منزله إلا وركض أحفاده باتجاهه بشغف وشوق وهم يرددون: ” جدو جدو جبتلنا معك أكلات طيبة؟ ” لم يعرف أبو محمود ماذا سوف يجيبهم، فأولئك الصغار لم يصلوا بعد لمرحلة يدركون فيها كيفية الحصول على النقود وجني المال في مدينة محاصرة بأبشع الطرق في ظل قصف يومي” لاء جدو لأن المحل مسكر بكرا بجبلكن” بذلك الوعد استطاع أبو محمود إسكات الصغار وتأميلهم بغد أفضل لكن إلى متى وسيأتي الغد قريبا.
نصف ساعة مرت على دخول الجد للمنزل، أم محمود تطهو بعض الحشائش التي حصلت عليها من حقل كبير على نار الحطب المتواجد لديها من قبل، فجأة تبدأ صافرات الإنذار في المدينة بالدوي بأعلى صوت لديها لتنذر عن وجود طائرة مروحية محملة بالبراميل المتفجرة التي اعتاد أهالي داريا على سماع هديرها في كل يوم، ركض الأطفال نحو جدهم والدموع قد ملأت أعينهم وبللت وجنتيهم وكان جسدهم قد بدأ يرتعش من شدة الخوف وصوت الطائرة التي بدأت بالتحليق فوق المدينة لتبحث عن هدف جديد دون أن تفرق إن كان مدنيا أو عسكريا لتلقي ببراميلها عليه.
وعن طريق اللاسلكي الذي بحوزة أبي محمود ومعظم المواطنين في داريا، سمع صوت أحد الشبان يقول ” المروحي نفذ والبرميل بالجو تحصنوا يا ناس “، كانت تلك الكلمات كفيلة ليبدأ صراخ الأطفال بالعلو تدريجيا وكأن حناجرهم سوف تخرج من مكانها، ومع صوت البرميل المنهمر من السماء وتعالي صفيره وهو يقترب تدريجيا من مكان ما في المدينة، بدأ العرق يتصبب من رأس أبي محمود وبدأ بالاستغفار، والآيات القرآنية تنطق من شفتي أم محمود آملة من رب العالمين أن يبعد حقد تلك الطائرات بعيداً عن زوجها وأحفادها، وما هي إلا ثوانٍ حتى دوى انفجار البرميل فور ارتطامه بالأرض لينطق اللاسلكي في يد أبي محمود ثانية” المروحي نفذ وانتهى وغادر المنطقة”، ليبدأ الاطمئنان بالولوج إلى قلب أبي محمود شيئاً فشيئاً.
بدأ باب المنزل يدق بقوة، سارع أبو محمود ليفتح الباب يتفاجأ بأحد شبان الحي يقول له: “الحاق دكانك راح وقع عليه البرميل يا عمو”، لم يدرك للوهلة الأولى أبو محمود ما نطقه الشاب من كلمات، ولم يجد نفسه إلا يركض باتجاه دكانه وصورة زوجته وصرخات أحفاده لا تفارق ذهنه، لم يفق من تلك الصدمة إلا وقد أصبح أمام ما تبقى من دكانه وقد مُحيَ معه سبيل الرزق الوحيد الذي كان من خلاله يستطيع – قدر الإمكان- أن يطعم من خلاله عائلته التي تنتظر في المنزل.
يقف أبو محمود وقد تصلبت عروقه على ركام دكانه لا يدري ما الذي سيصنعه مسلماً أمره راضياً بالقدر الذي كتب عليه، فهو كغيره من السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات النظام ليس بيده حيلة في ظل آلة قتل عنيفة تفتك بالبشر والشجر والحجر.
المركز الصحفي السوري – محمد تاج