لم يسلم البشر و لا الحجر من براميل الأسد التي لم توفر شيخاً أو طفلاً إلا و ألحقت الأذى به و تركت أثراً لن يمحى مهما طال الزمن.
العم أبو سالم رجل من مدينة داريا في غوطة دمشق الغربية يبلغ من العمر ستين عاماً، يعيش مع أحفاده في منزل قديم في إحدى أحياء داريا القديمة، إذ يعدّ أبو سالم المعيل الوحيد لأولئك الأطفال بعد وفاة أبويهم في حادث سير قبل عام من الآن.
لارا و عبد الرحمن و ثائر هم أحفاد أبي سالم، لا تتجاوز أعمارهم الـ 15 عاماً فكبيرتهم لارا طالبة في الصف السادس الابتدائي و تبلغ من العمر 12 عاماً يليها عبد الرحمن ذو العشرة أعوام الذي يدرس في الصف الرابع الابتدائي، أما ثائر فهو آخر العنقود و الذي بدأ يرتاد المدرسة حديثاً.
يملك أبو سالم محلاً لصنع الحصائر التقليدية، يستطيع من خلاله بصعوبة مساعدة أحفاده في مسيرتهم التعليمية و سد رمقهم و احتياجاتهم الرئيسية، فالغلاء في المعيشة و ارتفاع المصاريف التدريسية أنهكت أبا سالم و قصمت ظهره، إذ يبذل صعوبة كبيرة و مجهوداً عظيماً في صنع الحصائر تلك المهنة التي تحتاج ليدٍ ماهرة و صبرٍ كبير فكل حصيرة تحتاج وقتاً طويلاً لإنجازها.
لم تسلم مدينة داريا بعد أكثر من أربع سنوات و نصف مضت على انطلاقة الحراك الثوري من براميل طائرات النظام، فعشرات البراميل يومياً تستهدف أحياءها السكنية بالإضافة للغارات الجوية و القصف المدفعي العنيف من قبل قوات النظام، و لم تسلم أيضاً مدرسة أحفاد أبو سالم من براميل الحقد تلك و التي حولت المدرسة إلى ركامٍ، مما أنهى حلم الدراسة لأطفالٍ لم يروا من طفولتهم إلا القصف و الدمار و القتل الذي بات يلاحقهم حتى في أحلامهم.
همٌّ جديد أضيف إلى هموم أبي سالم بعد أن اضطر أحفاده إلى ترك مدرستهم و الجلوس في البيت، حيث ازدادت مطالبهم و زاد الحزن في قلبهم لعدم إكمالهم لتعليمهم بعد أن دمرت طائرات الأسد معالم مدرستهم و قتلت معها حلم أطفال جل ما يتمنوه هو أن يكملوا مراحل دراستهم ليكبروا و يصبحوا أشخاصاً يفيدون مجتمعهم.
و في إحدى الأيام كان أبو سالم في دكانه الصغير يقوم بحياكة إحدى الحصائر علّه يبيعها و يؤمّن قوت أولئك الأطفال الجائعين الذين ينتظرون عودته إلى المنزل، و كعادة الطائرات المروحية التي لا تفارق سماء المدينة مطلقاً سمع أبو سالم هدير إحدى المروحيات و هي تمر فوق مدينته التي أشبعتها براميل الحقد دماراً و قصفاً، و لم يمر الوقت طويلاً حتى بدأ صوت البرميل المتفجر و هو يتهاوى من السماء يرتفع و هو يقترب من الأرض، اختبأ أبو سالم في إحدى الأقبية القريبة من دكانه و قلبه ينبض بسرعة فاقت الطبيعية لقلب رجل مسن و عقله مشغول بمن هم في المنزل من أطفال من المؤكد أن أطرافهم ترتعد مما يحصل حولهم.
ثوانٍ معدودة كانت كفيلة بأن يسمع أهالي داريا صوت انفجار ذلك البرميل في إحدى أحياء المدينة، و بعد أن انتهت حالة الرعب تلك خرج أبو سالم من ذلك القبو ليعود و يطمئن على أحفاده، ليتفاجأ برؤية الدخان الأسود يتصاعد من جهة منزلهم، أغلق دكانه مسرعاً و ركض باتجاه المنزل ليصعق وهو يرى أن منزله قد أصبح مجرد حجار منكوبة فوق بعضها، ضاعت بينها الدماء و الأشلاء.
هرع أبو سالم ليشارك مع رجال الدفاع المدني في رفع أنقاض منزله و هو يبحث عن أولئك الأحفاد الذين ينتظرون جدهم و الجوع يملأ بطونهم، و فجأة بكاء من تحت الأنقاض يدوي في الأرجاء لتكون صرخة ثائر الطفل الأصغر بين إخوته و الذي كتب له عمر جديد بعد أن نجا بأعجوبة دون أن يودع إخوته الذين استشهدوا و تركوه وحيداً في مواجهة تلك الحرب التي تعصف بكل شيء
يقف أبو سالم و هو يمسك بيد ثائر و أمامه أكفان لارا و عبد الرحمن على أطلال منزله لا حول له و لا قوة، مغبرّ الوجه و مدمى اليدين فلم يعد قلبه يحتمل مزيداً من المآسي، لتتحول آماله كلها إلى ثائر حفيده الصغير.
المركز الصحفي السوري – محمد تاج