رغم أهمية ما قيل وكُتِب عن مقتل القيادي الأمني في “حزب الله”، مصطفى بدر الدين، بخاصة عن تهافت الرواية التي تبناها الحزب حول عملية اغتياله، مرة تحت عنوان حدوث “انفجار كبير” في الموقع الذي كان فيه، وأخرى عن “قذيفة مدفعية” أطلقتها جهة وصفت بـ “التكفيرية” فأصابت المكان وأدت الى مقتله، تبقى في مجال التحليل أيضاً مسألة لم تعتن بها كثيراً التعليقات والكتابات حول العملية: إجراءات النظام السوري على مدى أعوام لإخفاء أو تصفية أو “نحر” كل من له صلة، أو حتى يملك معلومات عن جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، والدور الذي قام به نظام بشار الأسد ونظام “الولي الفقيه” الإيراني علي خامنئي فيها.
وقد تكون لأطراف كثيرة، أميركية أو فرنسية أو حتى غيرها، مصلحة في الانتقام من بدر الدين، لما له من تاريخ أمني ضد أهداف أميركية وفرنسية بين لبنان وسورية والسعودية والكويت، لكن مصلحة نظام الأسد (وربما ايران) في التخلص منه، وحتى من كل أو بعض رفاقه الذين يحاكمون معه غيابياً أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لا تقل أبداً عن مصلحة تلك الأطراف بخاصة في الفترة الحالية التي يمر فيها النظامان وعلاقتهما بالمجتمع الدولي، وبواشنطن وباريس تحديداً.
لماذا؟ أقله لأن إمكان الوصول الى بدر الدين حيث يقاتل في سورية الى جانب النــظام، بالتالي اعتقاله ثم تقديمه الى المحـكمــة مع ما لديه من مــعلومات حول مَنْ قرّر اغتيال الحريري، سيشكل ضربة قاتلة ليس للنظامين في دمشق وطهران وحدهما، إنما للحزب أيضاً فيما تزداد وتتسع شـــباك حصاره ســياسياً وأمنياً ومالياً في كل مكان من العالم تقريباً.
فليس غريباً أن يكون نظام الأسد يعرف كيف تمكّنت أجهزة المخابرات والقوات الخاصة الأميركية من ملاحقة واعتقال العديد من قادة ومسؤولي “داعش”، داخل العراق كما في سورية في المدة الأخيرة، وكيف استفادت من الاعترافات التي انتزعتها منهم في حربها ضد التنظيم في البلدين والمنطقة. ولأنه يعرف تحديداً تاريخ بدر الدين مع واشنطن وقواتها ومصالحها، إن في بيروت أو في الخُبَر السعودية أو في الكويت… وربما يملك من المعلومات ما يجعله يعرف دقائق ملاحقته أميركياً تمهيداً لاعتقاله، فلن يكون مفاجئاً أن يقدم نظام الأسد على تصفيته قبل وصول الأميركيين إليه، بالتالي إطّلاعهم منه على دور الأسد في اغتيال الحريري، وربما في اغتيال غيره.
عملياً، لا مبالغة في هذا الأمر. اذ تخلّص نظام الأسد حتى الآن، كما بات معروفاً، من أحمد أبو عدس الذي جعله بطل اغتيال الحريري باسم منظمة سلفية إسلامية. ثم أخفى بعد ذلك عميلاً له كان مكلفاً متابعة سير الاغتيالات اللاحقة في لبنان (ظهر علناً في منزل جورج حاوي بعد اغتياله، ثم على شاشة تلفزيون دمشق ليردّد أقوالاً تبرّئ النظام) هو هسام هسام. ثم أعلن “انتحار” وزير داخليته غازي كنعان بعد أنباء عن احتمال إدلائه بشهادة أمام المحكمة، وصولاً في النهاية الى قتل قائد جهازه الأمني في ريف دمشق (رئيس مخابراته في لبنان إبان اغتيال الحريري) رستم غزالي، بعد مقتل صهره آصف شوكت الذي وُصِفَ على الدوام بأنه مهندس الجريمة وراعي جهاز الأمن السوري- اللبناني فيها.
ليس ذلك فقط، بل إن بدر الدين ورفاقه الذين لم يمثُلوا أمام المحكمة، والذين قال عنهم الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله ان المحكمة لن ترى وجوههم لا بعد عام ولا بعد ثلاثين عاماً ولا حتى بعد ثلاثمئة عام، يشكّل كل منهم (وبدر الدين في المقدمة) صيداً ثميناً لكل دول العالم وأجهزة استخباراتها فضلاً عن منظمات حقوق الإنسان التي تطالب بمحاكمة النظامين في دمشق وطهران بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
فتاريخ الرجل، مع رفاقه هؤلاء كما مع غيرهم في لبنان وسورية والكويت والبحرين، يبدأ مع انطلاق الثورة الإيرانية في السبعينات، ومن ثم مع كل ما قام به نظامها وعملاؤها منذ ذلك الحين على صعيد خطف الأجانب في لبنان، أو تفجير الطائرات المدنية في الخليج، أو مواقع وجود القوات الأجنبية ومحاولات الاغتيال في أكثر من بلد عربي.
لذلك، بينما يحاول نظام “الولي الفقيه” الإيراني أن يدخل الى الأسرة الدولية من ناحية، كما هي حاله بعد الاتفاق النووي مع دول 5الاحد 22-5-20161، ويحاول نظام الأسد من ناحية ثانية أن يتفادى إحالته على محكمة الجزاء الدولية على جرائمه الموصوفة ضد الشعب السوري، لا يجوز التقليل من أهمية اتخاذ قرار بإسدال الستار على تاريخ الرجل… ولا قبل ذلك وبعده إغفال هوية وطبيعة الجهة التي اتخذت هذا القرار.
لا يعني ما سبق عدم التساؤل عن تهافت الرواية حول مقتل بدر الدين، ولا كذلك حول تولي الحزب من دون النظام السوري، أو حتى الايراني المعني مباشرة به كما كانت حاله مع سلفه عماد مغنية، التحقيق في الأمر.
لكن جريمة اغتيال رفيق الحريري التي وصفها مجلس الأمن بأنها “إرهابية” وقرر إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة مرتكبيها والذين يقفون وراءها، تبقى في مقدمة ما ينبغي أن تأخذه التحليلات في الاعتبار عندما تناقش مقتل الرجل (وحده أو مع رفاق له؟) على بُعد كيلومترات قليلة من مطار دمشق.
ولمثل هذا الاعتبار منطقه وتاريخه المديد مع نظام آل الأسد منذ أكثر من أربعين عاماً… في داخل سورية، كما في طرابلس بلبنان، وصولاً الى البرازيل.
الحياة