الهزلية واللامبالاة في الأداء السياسي سمتان واضحتان في الأفعال السياسية لدى معظم القوى السياسية السورية في المرحلة الماضية، بدءا من المصالحات في القواعد العسكرية الروسية، إلى الانتقاد والتخوين لأي فعل سياسي خارج عن الآخر، والعنتريات السياسية تجاه الأطراف الأخرى المتفاوضة، وربما توضحت، في الأيام الأخيرة، نتيجة إعلان قيام كيان فيدرالي في الشمال، حيث انهالت الاتهامات والانتقادات لإعلان هذا الكيان، في المرحلة الحالية التي رآها الجميع مهمةً في طريق التفاوض لحل الأزمة السورية.
هذا الكيان الفيدرالي الذي لاقى لوماً وانتقاداً كثيرين مبني، مبدأً وقانوناً، على نصوص تشريعية واتفاقات سياسية، وقع عليها كل من منع الأكراد السوريين من المشاركة في مؤتمر جنيف 3، فالدولة السورية أقرّت أول خطوات اللامركزية الإدارية في قانون التنظيمات الإدارية عام 1957، ثم أصدرت قانون الإدارة المحلية عام 1973، تلا ذلك صدور دستور عام 2012 الذي أصدر معه قانون اللامركزية الإدارية، والذي جاء في المادة 137 من الدستور، لكن القوانين بقيت حبراً على ورق، وبقي تطبيقها بعيداً عن المأمول والمتوقع.
لذلك، لا يمكنها التنكّر للقانون الذي أحل قيام اللامركزية الإدارية على الأراضي السورية، خصوصاً في إطار عدم شرحها محددات مواده وتفاصيلها، من حيث اللامركزية الإدارية الضيقة أم الموسعة أم الفيدرالية. عموماً، لم يصدر أي تصريح رسمي معلن من الحكومة السورية، ربما لأنها لا تزال ترى القوى الكردية ضعيفة القدرة على الصمود العسكري، على الرغم من كل ما حققته من انتصاراتٍ على تنظيم الدولة، وحتى على الجيش السوري في الأعوام الماضية، ولكسب الود الكردي من جانب آخر، لكن الواقع يقول إن الحكومة السورية لا حول لها ولا قوة، في ما حصل، وليس لديها القدرة على التدخل.
بالنسبة للمعارضة الخارجية، وخصوصاً هيئة التفاوض والائتلاف الوطني، والذين اعتبروا قيام هذا الكيان خيانة عظمى لتطلعات الشعب السوري، فيما الأخير وقع ورقة تفاهم مع القوى السياسية المؤسسة له، ومنها القوى السياسية الكردية، وذلك بضمان حقهم بتأسيس إقليم حكم ذاتي، ولم يذكر مكان أو زمان تأسيس هذا الإقليم، فمن يتحدث عن تقسيمٍ لسورية حالياً، لا أعتقد أنه يرى الانفصال غير المعلن للمناطق الشمالية والشرقية الخارجة عن سيطرة الدولة السورية.
لكن، من السهل عليه معرفة الشرخ الواسع بين من يعيش في تلك المناطق ومن يعيش في مناطق سيطرة الدولة، ذلك الشرخ الذي أصبح من الصعب إصلاحه، وربما سنبقى أعواماً نعاني من تبعيات هذا الشرخ.
إبعاد القوى السياسية الكردية في الشمال اليوم عن طاولات الحوار أمر خطير، سيتطور لقيام فعلي، ليس فقط لمنطقة حكم ذاتي، بل لدولة مستقلة ربما مستقبلاً، فتحييد الأكراد عن وطنهم الأم سورية سياسياً، وعدم ضمان حقهم في التمثيل السياسي أدى إلى قيام هذا الكيان.
التجارب السياسية خير دليل على جهالة ما تقوم به القوى السياسية والهيئات المفاوضة، فتنحية الأكراد عن التفاوض آلت إلى قيام هذا الكيان، وربما مستقبلاً قد تؤدي إلى تنحية أي طرف سوري آخر، ما سيؤدي إلى منحىً أخطر بكثير، وسنصبح، نحن السوريين، منقسمين ضمن دويلاتٍ بعيدة كل البعد عن مفهوم الفيدرالية.
التناظر الغريب في الفعل والخطاب السياسي بين جميع القوى السياسية السورية، خصوصاً في الأيام القليلة الماضية، أظهر تلك القوى كأنها تنتظر أي فعل أو قرار سياسي، ليصبح محل شك وتخوين، حتى لو كان هذا الفعل أو القرار من حلفاء سياسيين.
لن يتحقق الحل السياسي اليوم ما دامت هذه القوى تتهافت لإرضاء الدول الكبرى العاملة على الحل السياسي، وكأن هم هذه القوى الأول والأخير إرضاء الدول الممولة لقيام أحزابها وتكتلاتها، وليس إيجاد التوافق بين السوريين، للوصول إلى أولى خطوات الحل السياسي على طريق إنهاء الحرب الدائرة.
العربي الجديد
نجيب الشوفي