ظلت دول الاتحاد الأوروبي تنعم على مر عقود بحدود مفتوحة، أما الآن فهناك من يريد إقامة معابر حدودية ونقاط تفتيش بين بلدان أوروبا بقصد منع اللاجئين من الدخول. ماذا سيكون مصير الوحدة الأوروبية في حال تمت إقامة هذه المعابر؟ يبدو أنها بداية النهاية لقصة أوروبا متحدة.
بيد أن أوروبا قبل اتفاقية شنغن عام 1995 التي صهرت القارة وأذابت حدودها كانت في ماضيها رقعاً منفصلة ممزقة لا نسيج يربطها ببعضها، وفق تقرير نشره موقع دايلي بيست الأميركي، الخميس 28 يناير/كانون الثاني 2016.
في تلك الأيام كان لكل دولة عدة نقاط حدودية على الطرقات والسكك الحديدية والمطارات، تعج بالحرس الذين يملأون جوازات السفر بالأختام في كل ذهاب وإياب: أختام بشتى الألوان والأشكال واللغات كأنها من فيلم قديم من عصر بائد.
لكن يبدو أن هذا العصر البائد آخذ في العودة بالتدريج، فأوروبا ترزح تحت وطأة أكثر من مليون لاجئ عبروا حدودها السنة الماضية وحدها، وها هي الأسوار والأسلاك الشائكة تنتصب وتعلو في وجههم، وها هي أوروبا تتفتت على ما يبدو.
الفكرة الأخيرة المطروحة الآن هي تعليق اتفاقية شنغن عامينِ بدءاً من مايو/أيار 2016. إن تحولت الفكرةُ إلى حقيقة واقعةً فسيعني وقفَ تدفقِ الإنسانية إلى الدول العديدة التي لا تريد لاجئين ومهاجرين يتجولون في أنحاءها.
تكلفة مالية عالية
فكرة تبدو بسيطة، خاصة أن معظم الحدود والطرقات الدولية والسكك الحديدية الرئيسية بين البلدان ما زالت تحتفظ بأطلال تلك النقاط والمعابر شاهداً من تلك الحقبة، لكن إعادة إعمار وتأهيل تلك النقاط برجال الأمن والتفتيش –بعدما عفا عليها الدهر- أمرٌ لا يخلو من عقبات ومشكلات باهظة الثمن. فالتقديرات المالية تشير إلى أن التكلفة ستكون عشرات المليارات من اليورو.
فيديريكا موغيريني، المفوضة العليا للشؤون الخارجية والسياسات الأمنية في الاتحاد الأوروبي ونائبة رئيس المفوضية الأوروبية، قالت أن التكلفة التي ستتكبدها كل دولة أوروبية توقف العمل بالشنغن ستكون “فلكية” حيث أن الأمر مكلف “ليس فقط من ناحية التطبيق بل كذلك من ناحية الأثر الاقتصادي على أوروبا المقسمة، فالتكلفة قطعاً ستبلغ أكثر ما تنفقه كل دولة على استقبال اللاجئين.”
40 ألف إلى إيطاليا واليونان
خطة قد تنجح في وقف تدفق اللاجئين إلى بلدان شمال أوروبا، لكنها ستكدسهم في بلدان الجنوب كإيطاليا واليونان التي يفد إليها هؤلاء بحراً. أرقام منظمة الهجرة العالمية تقول أن 40 ألف شخص وصلوا لتوهم هاتين الدولتين هذا العام.
لكن بصرف النظر عن الضغط الواضح على بلدان الحدود الساحلية حيث تصل الأغلبية الساحقة من اللاجئين، فإن وقف العمل باتفاقية شنغن سيكون أثره الأكبر والأكثر إزعاجاً على مواطني الاتحاد الأوروبي ومسافريه الذين اعتادوا سهولة ويسر وحرية الحركة ضمن منطقة اليورو.
لا عملة موحدة من دون شنغن
ومن دون شنغن، ماذا يبقى من الاتحاد الأوروبي سوى اسمه وعملته المالية اليورو التي تشكل النسيج الذي يربط الاتحاد المفكك؟ ألم يقل رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر متحدثاً إلى فاينانشال تايمز: “العملة الموحدة لا يبقى لها وجود إن فشل الشنغن.”؟
هناك أيضاً موضوع شركات الشحن والاستيراد والتصدير والتوصيل البريدي التي ستتعطل أعمالها بلا شك إن خضعت لبيروقراطية الرسوم الجمركية التي لا تخلو منها نقاط التفتيش.
تعقيدات على صعيد الشحن
فنظام الشحن والتوصيل السريع الذي ينفذ عبر الحدود الآن بسرعة البرق سيتعقَّد بسبب إجراءات الإدخال وتأخير المواعيد. فحسب تقديرات شركة يورو إكسبريس للنقل والشحن يتوقع أن تتكبد الشركة 80 مليون يورو سنوياً إن وضعت العراقيل الحدودية الجمركية.
كما قالت الشركة في تقرير لها أن “قطاعات النقل الأخرى قد تواجه تكاليف أكبر من هذا بكثير إن تم سحب السلاسة الحدودية.”
ولا تقف الأمور عند هذا الحد، فهناك مدن حدودية بين بلدان أوروبا ستتضرر من فرض نقاط التفتيش، لأن تجارتها وصناعتها لن تنمو ولن يكون في مقدورها الاحتفاظ بموظفيها من البلدان المجاورة الذين سيغدون مضطرين لعبور الحدود والوقوف في طوابيرها من أجل الذهاب إلى عملهم والعودة إلى منازلهم.
قطاع الطيران
قطاع الطيران أيضاً سيدفع ثمناً باهظاً، فهناك الكثير من شركات الطيران الاقتصادية التي تربط مدناً سياحية ومطارات صغيرة ببعضها بأرخص الأثمان لأن مواطني أوروبا لا يحتاجون إلى تسجيل دخولهم عبر مطار دولي.
فإن فرضت القيود من جديد، سيتوجب توسيع كافة المطارات الصغيرة لتزويدها بوحدات تفتيش جوازات أمنية ومرافق جمركية شأنها شأن المطارات الدولية.
تكلفة الرحلة من روما إلى برشلونة التي تدفع لقاءها أقل من 50 دولاراً الآن، ستتضاعف ثلاث مرات على الأقل لأن خطوط الطيران تدفع تكلفة عبور الحدود.
ماذا عن القطارات والسفر البري بالسيارات والباصات ورحلات التخييم البرية التي نسي مسافروها ماذا يعني التأخير الحدودي بينما يقطعون القارة من شرقها إلى غربها؟ يبدو أن كل هذا ما عاد يهم.
تجاذبات أوروبية
أخيراً، اجتمع وزراء داخلية أوروبا في أمستردام حيث أصر كلاس ديخوف وزير الهجرة الهولندي على فرض المعابر الحدودية وتعليق شنغن لمدة عامين بدءاً من مايو/أيار.
والأربعاء الماضي، خطا الاتحاد الأوروبي خطوةً أخرى واتهم اليونان بعدم الالتزام بقوانين الشنغن التي تخضع كل طالب لجوء إلى التوثيق والتسجيل والفحص قبل السماح له بالعبور إلى أوروبا. فردت اليونان، التي وصلها في الأسابيع الثلاثة الأولى من هذا العام فقط 35 ألف مهاجر (بمعدل 3000 يومياً)، أن أوروبا تعاملها ككبش فداء لتغطية تقصيرها في صياغة سياسة متماسكة تعالج قضية الهجرة.
مع ذلك هدّد الاتحاد الأوروبي اليونانَ أن أمامها 3 أشهر لتنضبط وإلا أغلقت حدودها براً وجواً، ما ينذر ببدء انهيار الشنغن نفسه.
استدارت اليونان شرقاً وصبت جام غضبها على الجارة التركية لعدم تجاوب الأخيرة في وقف تسرب اللاجئين، لكن تركيا تجاهلت الاتهامات.
وتقدر منظمة الهجرة العالمية عدد اللاجئين في تركيا بأكثر من مليوني لاجئ سوري يتزايدون يومياً، جميعهم يتأهبون للتوجه نحو أوروبا، سواء بوجود الحدود أو بدونها.
المستقبل يبدو كئيباً. بهذه الكلمات استهل رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك كلامه لقناة دويتش فيله DW: “ليس أمامنا سوى شهرين للسيطرة على الوضع وإلا فشل مشروع الاتحاد الأوروبي السياسي.” وهذا الفشل ستكون له عواقبه في جميع أنحاء العالم.
هافنغتون بوست