هال الغرب والشرق صعود تركيا المتسارع نحو قمّة النجاح، بعد أن كانت في المستويات الأدنى عالمياً على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. عادت درّة التاج الشرق-أوسطي تلمع، وعاد الأعداء يحتسون القهوة التركية المرّة، حزناً وحداداً على أمنياتهم بدحر تركيا، وإبقائها في قعر الهاوية، بعد أن كانت إمبراطوريةً حكمت نصف أمم المعمورة.
لم يرق للغرب أن تنصهر العلمنة بالإسلام، والحداثة بالتقاليد، والشرق بالغرب في تركيا، وكانت دوماً تنغص عيشتهم أصوات المآذن التي تصدح على حدودهم خمس مرّات في اليوم، ولم يكن الشرق راضياً عن دولةٍ تلبس عباءتها الشرقية رافعةً النقاب عن وجهها، مصافحة للرجال في الوقت نفسه.
بين غربٍ يريد مجوناً علمانياً، وشرقاً يريد تزمتاً دينياً، ثارت تركيا على المشرق والمغرب، وشكّلت لنفسها هويةً متأقلمةً مع الحاضر، من دون أن تئد تاريخها المجيد الساطع. اعتنقت تركيا الديمقراطية مذهباً سياسياً، والإسلام مذهباً دينياً، والعلمنة مذهباً إدارياً، فكان نجاحها المتقد قائماً على الأعمدة الثلاثة تلك.
تركيا التي كانت علمانية خلال نصف قرن، وشهدت نهضةً فكريةً متقدمة جعلت من الشعب التركي أكثر قدرةً على هضم الانفتاح العالمي الهائل الذي نعيشه في يومنا، لا يمكنها أن تتقبّل إسلاماً تقليدياً، تغلب عليه صفة الإنغلاق، كما في بعض مجتمعات العرب، وهي، في الوقت نفسه، لم تعد قادرةً على الاصطباغ بلون العلمنة الفرنسي، شديد التزمت والتعصب ضد كل ما هو إسلامي. ببساطةٍ، لم تستطع تركيا أن تتغافل عن رؤية منارات اسطنبول التاريخية تعانق السماء، ولم تستطع أيضاً، في الوقت نفسه، أن تقضي على مظاهر الحياة الغربية الأوروبية التي اكتسحت مدنها، وباتت جزءاً من إرثها الإجتماعي، استطاعت ببساطة أن تمزج السلطنة بالجمهورية، فأنجبت تركيا الديمقراطية.
نجحت تركيا سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً، انفتحت على جيرانها، مدّت علاقاتها مع الدول العربية، تصالحت مع أعدائها، وانفتحت اقتصادياً على العالم، ورأى الأتراك كيف حوّلت الديمقراطية بلدهم من دول العالم الثالث إلى واحدة من أرقى دول العالم وأهمها وأقواها، حيث أعادت لهم الديمقراطية جزءاً من العزة التي كادوا يفقدونها في الثمانينات والتسعينات، وأعطتهم الحرية في أن يكونوا مسلمين أو علمانيين أو أن يجمعوا بين الإثنين.
تحرّر الأتراك، وما عاد منظر العسكر يرهبهم، لم تعد الكمامات تعلو أفواههم، وباتت الحرية عنواناً لهم يتغنّون فيها تماماً، كما يتغنّى بها أهل أوروبا وشعوبها، وتحرّر الأتراك من عقدة الزعيم رويداً رويداً، فدمّروا أوثانهم بأيديهم، وأقسموا أن لا يكونوا وثنيين بعد اليوم.
ثم احترق الشرق، ثارت تونس فمصر فليبيا فسورية، وتقهقر العراق، وتأزمت أوضاع لبنان، ودسّت إيران أنفها في اليمن والسعودية والبحرين وسورية ولبنان والعراق والكويت، وأشعلت حروباً لن تطفئها سوى عقول مستنيرة، مجتمعات متطورة، أفكار منظمة وشخصيات قيادية يختارها الشعب ديمقراطيا.
يبدو جلّياً أنّ جنون الحرب في المشرق لن تطفئه سوى أنوار العلم والأفكار، وتعتبر تركيا بريادتها السياسية والاقتصادية والديمقراطية والاجتماعية منارة قد ينهل منها أهل الشرق لمحاربة الشرور المستطيرة التي تحيط ببلدانهم ومجتمعاتهم من كل جانب.
بحكم موقعها الجغرافي، ومكانتها التاريخية، ومثالية ديمقراطيتها، وتسارع حركتها نحو القمة وجمال معالمها، شدّت تركيا أنظار الشعوب المقهورة المحيطة بها، رأى العرب فيها مثالاً يُقتدى، فالإسلاميون اعتبروها أكثر إسلاماً من دولهم، واعتبرها العلمانيون مكاناً يستطيعون فيه التعبير بحرية أكبر عن أفكارهم ومعتقداتهم، وهي منقذ من أتون الحرب السورية، وأيقونة يستطيعون بناء بلدانهم على صورتها بعد انتهاء ربيع الثورات.
أجمعوا أمرهم، وساعدهم مخاض الشرق الأوسط على إجراء عملية قيصريةٍ فاشلة، ليلدوا من رحم تركيا من يزلزل كيانها، فأتاهم الرد من تركيا الأم، خسئتم فرحمي طيب لا يلد إلا طيبا. عملية انقلابية عسكرية من موضة الستينات والسبعينات في زمن “تويتر” و”فيسبوك” و”فايس تايم” و”سكايب”، قصمت ظهور الجمال التي جمعوها من كل حدب وصوب لمحاربة تركيا، فخرج الأتراك، بشبابهم وشيبانهم وذكورهم وإناثهم، ليدافعوا عن ديمقراطيتهم، وعن بلدهم وعن مبادئهم وقيمهم. جنود خوّنة ترى في عيونهم الخوف، وترتعد قلوبهم وجلاً، لم يستطيعوا أن يحاربوا أمة، نعم فالعين لا تقاوم مخرزاً، والشعب عندما يتحد يتحول إلى مخرز في عين كلّ خائن.
انتهى البلاغ، انتصر الشعب التركي وانتصرت تركيا، هزمت الجموع وولوا الدبر. تركيا ما بعد الانقلاب ليست كقبله، على تركيا اليوم التمسك أكثر بثوابتها، عليها مسؤوليات أكبر تجاه مريديها من شعبها والشعوب المجاورة، على تركيا اليوم أن تضرب بيد من حديد كل من يهدّد وحدتها وديمقراطيتها ومكانتها، من دون أن تنسى أنّها واحة ديمقراطية في شرقٍ يغرق بدماء أبنائه، فتستحيل ديكتاتورية أخرى، يموت الناس زرافات ووحداناً للخلاص منها.
العربي الجديد – العلاء الهاشمي