تعبّر التصريحات الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب عن حقيقة موقفها من الحرب السورية، بعيداً عن بكائياتها السابقة والرومانسية في عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، فهي استثمارٌ يحقق لها أرباحاً معنوية وعينية في منطقةٍ مشتعلةٍ يتحارب فيها وعليها خصومها
(روسيا وإيران إضافة إلى الصين)، ويجري من خلالها تحجيم قوى إقليمية وعربية، واستثمار مخاوفها وتحويلها إلى جيوب استثمارية وقوى شرطية في محيطها، في وقتٍ تحصد فيه حليفتها إسرائيل محصول الغنائم تمكناً معنوياً ووجودياً على أرض فلسطين.
لم تنظر إدارتا أوباما وترامب إلى الحرب في سورية على أنها حرب نظامٍ على شعبٍ مطالب بحريته، بل تعاملتا معها على أنها فرصة استثمارية تتحقق من خلالها منافع متعدّدة، فهي من جهة اختبار لحجم قوة النظام السوري الذي مارس دور الشرطي في المنطقة خمسة عقود، ومن ثم إعداد الطرق الأكثر فائدةً في استنزاف هذه القوة، وهو ما حدث عبر صراع طويل الأمد، حرصت فيه الولايات المتحدة الأميركية على منع رجحان الكفة فيه لمصلحة أي فريق، عبر إدارتها طبيعة التدخل الإقليمي والعربي في تعاملها مع المعارضة السورية وأدواتها المسلحة، ما جعل منها أحد أهم الرابحين في حربٍ لم تدخلها، ولم تخسر فيها بشرياً أو مالياً، بل استثمرت مع حليفتها إسرائيل في كامل مفاعيلها سياسياً وعسكرياً وتطبيعاً.
شاركت إسرائيل في الحرب السورية بصمتها تارة عن تدخل إيران وتمدّد قواتها على حدودها مع أذرعها المليشياوية من حزب الله وفاطميين وزينبيين وغيرهم، وتارة بتحالفها مع روسيا في صناعة المحور الثلاثي مع الولايات المتحدة الأميركية لتمرير مشروع تحجيم إيران في سورية
والمنطقة، بعد انتهاء أدوارها في العراق وسورية ولبنان، وتغيير إجماعات الشعوب العربية، وتوجيه خلافاتهم إلى داخل دولهم وقومياتهم ومذاهبهم وطوائفهم.
وترجمت موسكو تحالفها مع إسرائيل في سورية من خلال تعطيل منظوماتها الدفاعية الجوية المنتشرة على الأراضي السورية، خلال الضربات الإسرائيلية الموجعة لقوات النظام الإيراني من جنوب سورية حتى شمالها، واستخدمت واشنطن موسكو مراراً وتكراراً في إيصال رسائلها، سواء عبر تعطيل مشاريعها في مساري أستانة وسوتشي، أو عبر المباركة الأميركية لبعض الاتفاقيات الروسية التركية، بما يخدم الهدف النهائي الذي عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، من تل أبيب، “أن على النظام الإيراني مغادرة سورية”، مشيراً إلى أن مطلبه تسلمه كل من النظامين الإيراني والسوري، أي أن حبل الوصل لم ينقطع، ولا تزال روسيا ساعي بريد، سواء بسلاحها أو إعلامها، وحتى بصمْتها.
من جهته، استطاع الأسد الاستثمار في التدخل الإيراني والروسي في سورية، وتجيير انتصاراتهما لمصلحته، ما جعله يناور ويتلاعب في أولويات الحل الذي تريده موسكو لإنهاء الصراع بعيداً عن الوجود الإيراني في سورية، ما من شأنه أن يضعف من مكانة النظام في الحل المنشود لمصلحة روسيا دولياً في الدرجة الأولى، ويرجّح إمكانية بيع الأسد كورقة تفاوض إلى جانب ورقة إيران، وهو ما جعل أنصار النظام يقفون في مواجهة المشروع
الروسي للحل في سورية، معتبرين أن النصر قد تحقق، وانتهى الصراع ببقاء الأسد ونظامه يحكمون سورية إلى الأبد. ما يجعل ذلك “الانتصار الأسدي المزعوم” خطراً على روسيا في تعاقداتها الدولية، التي تتجاوز الوضع في سورية، وصولاً إلى تعزيز مكانتها مع أوروبا، وإنهاء مشكلاتها الاقتصادية والتكنولوجية مع الجانب الأميركي، وهو ما يبرّر الحملات التي سمحت بها ضد الرئيس بشار الأسد وزوجته، وكشفت فضائح العائلة الحاكمة وفسادها، في وقت ينازع فيه الاقتصاد السوري من جهة، تحت ضربات الحرب الداخلية، ومن جهة ثانية، نتيجة الحصار المصرفي اللبناني له بعد انطلاقة الثورة في لبنان وتعطيل ودائعه، والتحكّم في مصروفاته وتعطل عقود الاستيراد التي تنفذ عبر شركاته في لبنان، وربما الاستيلاء على كامل أرصدته لاحقاً، وأخيراً، اقتراب موعد إحكام الحصار عليه من خلال قانون قيصر الذي يسري على النظام وكل المتعاملين معه بعد أيام مع إطلالة شهر يونيو/ حزيران المقبل.