فوجئ الحضور في المؤتمر الذي نظمه قبل ثلاثة أشهر “مجلس التاريخ” الروسي في موسكو من هوية “القدوة” التي طالب الرئيس فلاديمير بوتين، المتحدّث الرئيس في المؤتمر، الروس باقتفاء أثرها، والسير على “هُدى” تجربتها “الناجحة” التي تمثلت في تحقيق “تفوق نوعي” في مجالاتٍ كثيرة. فلم تكن تلك “القدوة” سوى إسرائيل، التي عزا بوتين “نجاحاتها الباهرة” إلى حرص الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية، وقادة إسرائيل الأوائل، على “استخلاص العبر” من تاريخ اليهود القديم والحديث.
وبغض النظر عن وجاهة التفسير الذي ساقه بوتين، لسبر أغوار التجربة الإسرائيلية، كما روت ذلك كاتبة يهودية بشكل عابر، في مقال نشرته “معاريف”، في الأول من يوليو/ تموز الماضي، فإن ما صدر عنه يشي بطابع الاعتبارات التي تحرّك حماسه لبناء شراكة إستراتيجية مع الكيان الصهيوني، تتوثق باستمرار. فليس فقط التقاء المصالح بين موسكو وتل أبيب يحفز التنسيق الروسي الإسرائيلي في سورية، بل أيضاً وقوع بوتين أسيراً في شرك قوة إسرائيل الناعمة التي بلغت سطوتها إلى درجة أنه بات يرى فيها مصدراً للإلهام للشعب الروسي. وبخلاف الانطباع الذي تحاول تكريسه إيران، وبقية التشكيلات الشيعية التي تقاتل من أجل إبقاء نظام الأسد، فإن هناك ما يدلل على أن بوتين يوظف تدخله في سورية من أجل تحقيق المصالح الإسرائيلية على حساب مصالح إيران تحديداً في سورية. ويتضح أنه كلما زادت ورطة إيران في سورية زادت قدرة بوتين على توظيف هذه الورطة، بهذا الشكل أو ذاك لصالح إسرائيل. وتكفي هنا الإشارة إلى الاستنتاج الذي ولج إليه الرئيس الأسبق لجهاز الموساد، إفرايم هليفي، من قبول إيران بتمركز القاذفات الروسية التي تشارك في قصف الشعب السوري، في قواعدها الجوية. ويرى هليفي، في مقال نشرته “يديعوت أحرنوت” الجمعة الماضي، أن الخطوة الإيرانية التي تعكس إقراراً فجاً بالفشل في سورية تخدم في النهاية إسرائيل، على اعتبار أنه كلما زاد شعور الإيرانيين بالورطة في سورية، والحاجة إلى الروس أكثر، كان في وسع بوتين إلزامهم بعدم تجاوز الخطوط الإسرائيلية الحمراء. ويراهن الإسرائيليون صراحةً على الدور الروسي المتعاظم في سورية في منع حزب الله من استغلال وجوده في سورية من أجل بناء قواعد عسكرية. وتنطلق محافل التقدير الإستراتيجي في تل أبيب من افتراضٍ مفاده بأنه، في ظل الظروف الداخلية اللبنانية، سيكون من الصعب على حزب الله التسبب في مواجهةٍ تكون ساحتها لبنان.
حرص بوتين على منح إسرائيل هامش مناورة كبيرة داخل سورية، ومواصلة الجيش الإسرائيلي العمل داخل الأراضي السورية، بعد التدخل الروسي، ضد أهدافٍ لحزب الله وإيران، بل واعتراف نتنياهو بذلك علناً، يدل على أن بوتين عندما يخير بين إسرائيل وإيران، فإنه يختار الوقوف إلى جانب إسرائيل بدون تردّد.
وترى نخب إسرائيلية أنه كلما ثبت، مع الوقت، التزام إيران بالاتفاق الذي وقعته مع الدول
العظمى بشأن مستقبل برنامجها النووي، كانت هناك فرصة للتوصل إلى تفاهمات بين طهران وتل أبيب برعاية روسية. ولا حاجة للتذكير بأن إسرائيل تراهن صراحةً على دور بوتين في فرض تسوية في سورية، تضمن إخراج القطر السوري من دائرة الصراع للأبد عبر الحماس للحل “الكونفيدرالي” الذي يعني تقسيم سورية إلى دويلات.
لكن، تبين أن استنفار بوتين لخدمة المصالح الإسرائيلية لا يقتصر على ضمان محاصرة إيران وحزب الله في سورية، بل تعدّاه إلى خدمة الأجندة الضيقة لحكومة اليمين المتطرف، ومنافسة عبد الفتاح السيسي في مساعدة تل أبيب على محاولة إحباط مشاريع التسوية التي يقترحها الأوروبيون، فبعد أن عجزت “المبادرة المصرية” التي طرحها السيسي لاحتواء المبادرة الفرنسية التي تخشى تل أبيب أن يقود رفضها، في النهاية، إلى صدور اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، يقترح بوتين استضافة اجتماع يضم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في موسكو لإطلاق “مفاوضات” بين الجانبين، تهدف فقط إلى نزع الشرعية عن المبادرة الفرنسية. ولا يحتاج بوتين أن يطلب من سفيره في تل أبيب، إليكسي دوفنينو، الذي يجيد العبرية بشكل لافت، تقديراً حول حقيقة مواقف حكومة نتنياهو من التسوية، فقرارات حكومة نتنياهو أخيراً تدل بشكلٍ لا يقبل التأويل على أن هذه الحكومة في سباقٍ مع الزمن لتصميم الواقع في الضفة الغربية، بحيث يكون الحديث معه عن أفقٍ لتسوية للصراع محض هراء. فقد استبد جنون التطرّف بحكومة تل أبيب، إلى حد أن وزير الإسكان فيها، يوآف غالانت، يعلن عن خطةٍ تنص على حل “نهائي” لمشكلة السكن في إسرائيل عبر استغلال أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية.
يدل استنفار بوتين لخدمة المصالح الإسرائيلية على هذا النحو على بؤس آليات التفكير التي تحكم سلوك نظم الحكم العربية التي سارعت إلى مغازلة روسيا، بعد أن تبين أن الولايات المتحدة في طور فك ارتباطها بالمنطقة، وهو الغزل الذي دفع حكاماً عديدين إلى الحج إلى موسكو، على الرغم من فظاعة الجرائم التي يرتكبها الروس في سورية.
بإمكان الحكام العرب الاستماع إلى ما قاله نتنياهو، الأسبوع الماضي، في مقابلات عديدة مع وسائل الإعلام الصهيونية، لكي يسلكوا أقصر الطرق إلى قلب بوتين ونيل صداقته. فقد تباهى نتنياهو، في هذه المقابلات، بأن الخطة “رباعية الأبعاد” التي ينفذها لتعزيز “المنعة الإستراتيجية” لإسرائيل وراء حرص قوى دولية كثيرة، وتحديداً روسيا، على التقرب من إسرائيل.
ولعل أهم جملة ذات صلة، وردت على لسان نتنياهو: “عندما تكون قوياً فالكل معني بالتحالف معك والتقرّب منك”.
العربي الجديد