يعيش العالم لحظة تاريخية قد تحمل معها تغييرات جذرية على المستوى العالمي اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وتحاول كل الدول تقليل الأضرار الناجمة عن أزمة كورونا مع بدء تفشي الفيروس وإعلانه من قبل منظمة الصحة العالمية وباء عالميا، ولعل أول أهم هذه المحاولات هي منع تفشي الفيروس وتأخيره قدر الإمكان والاستعداد لمواجهته في كل القطاعات.
إن الميزة التي كانت واضحة على الخطاب السياسي والإداري التركي هي الهدوء والثبات وعدم التوتر وقد كان هذا واضحا في خطاب الرئيس أردوغان وخطاب بقية الوزراء وعلى رأسهم وزير الصحة التركي فخر الدين قوجة. حيث إن التوتر والانفعال لايعد من سمات القادة في الأزمات حيث يكون له أثر قوي في نشر الذعر وانفلات الأمور، وبهذا كان واضحا دقة الدولة في ضبط المعلومات والخطاب والهدوء في التعامل مع كل تطور. وقد بدأ صانع القرار التركي بنفسه عندما استبدل بعقد القمة الرباعية في اسطنبول عقدها عبر الفيديو كونفرانس مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.
وقد كان ملاحظا هدوء الرئيس التركي وتحديدا عندما قال “إذا تمكنا من توعية شعبنا بشكل جيد وسيطرنا على تفشي الفيروس فسنكون على موعد مع أيام سعيدة أكثر مما نأمل”. وبهذا أعطى أردوغان إشارات أن الدولة جاهزة للتعامل مع الأزمة وأن وعي المواطنين عامل أساسي في تجنب الأزمة بل في الخروج بنتائج إيجابية أكثر من المأمول. وكذلك الأمر فعل وزير الصحة عندما أعلن أن مستشفيات تركيا تضم نحو 100 ألف غرفة جاهزة لتتحول إلى غرف عزل أو عناية مركزة إن اقتضت الحاجة.
وفي هذا السياق هناك حساسية عالية في مواجهة الإشاعات حيث يتم بشكل مباشر تفنيد أي إشاعة وتعمل رئاسة الاتصال في الرئاسة التركية على هذا الأمر عن كثب وقد نفت على سبيل المثال صحة شائعات إعلان الطوارئ وحظر التجوال.
مع بدء تزايد أعداد المصابين بفيروس كورونا في تركيا أعلنت الدولة التركية عن مجموعة إجراءات مهمة في كافة الجوانب بعد سلسلة تقييمات شاركت فيها عدة مؤسسات معنية في كل قطاع بدءا من الإجراءات والفحوصات التي اتخذت في المطارات ثم منع السفر من وإلى بعض البلدان المصابة، وبالطبع على رأس التدابير كان الجانب الصحي والعمل على أخذ الإجراءات اللازمة لمنع تفشي الفيروس أمرا رئيسيا وفي هذا السياق تم تعطيل المدارس.
دعا الرئيس التركي المواطنين في تركيا إلى عدم الخروج من المنازل إلا للضرورة القصوى والصمود لمدة شهر لتجاوز الأزمة
والجامعات ثم أعلنت الديانة التركية وقف صلوات الجماعة في المساجد، وبدأت حملات تعقيم في معظم المؤسسات والمرافق، وتم الإعلان عن تأجيل لأجل غير مسمى لجميع الأنشطة العلمية الوطنية والدولية المقرر تنظيمها حتى نهاية نيسان المقبل، والاجتماعات والمؤتمرات المفتوحة والمغلقة والمناورات العسكرية. ودعا الرئيس التركي المواطنين في تركيا إلى عدم الخروج من المنازل إلا للضرورة القصوى والصمود لمدة شهر لتجاوز الأزمة مضيفا أن هذه المدة يمكن أن تتقلص إلى 3 أسابيع في حال تمت مراعاة التدابير.
على مستوى الأسواق والتوظيف وتوفير الاحتياجات الأساسية أعلنت الدولة أنها اتخذت كافة الاحتياطات لمواصلة توفير الاحتياجات الأساسية دون انقطاع وأعلنت عن الرقابة والتشدد في العقوبة للذين يحاولون احتكار المواد والمستلزمات الأساسية والتي تمس الحاجة لها مما أسفر عن ضبط للأسعار وعدم وجود ذعر بين المواطنين.
على الجانب الاقتصادي فعلت تركيا حزمة الدرع الاقتصادي التي تشمل تخصيص 100 مليار ليرة للتخفيف من آثار أزمة كورونا وعلى سبيل المثال تعتبر شركة الخطوط الجوية من أكثر الشركات تأثرا بالأزمة بسبب توقف الطيران إلى الكثير من الدول وتراجع حركة السفر وتوقف شبه تام للسياحة، ولذلك قررت الدولة دعم الشركات المتضررة ومنها شركة الخطوط الجوية التركية. كما أعلنت الدولة عن تدابير من شأنها عدم التأثير سلبا على المصدرين الأتراك، بينها تحويل مسار الصادرات إلى دول آسيا الوسطى عبر جورجيا وأذربيجان بدلا من إيران التي تعاني من تفشي كورونا.
كانت الصفة الثانية بالإضافة للهدوء هي محاولة التميز عن الآخرين سواء في الخطاب الأخلاقي وحتى في المبادرة، وهنا في ظل الخطاب الغربي الذي احتوى على العديد من الإشارات على التضحية بكبار السن أو الاستعداد لفراقهم أعلن الرئيس التركي عن معارضة تركيا لهذا النهج في التعامل مع المسنين بل ستزيد من اهتمامها بهم وقد بدأت الدولة في توزيع الكمامات والكولونيا مجانا على من هم أعلى من سن 65 في كل من أنقرة وإسطنبول. كما انتقد أردوغان الدول التي تتشدق بخطاب الدفاع عن حقوق الإنسان والآن ترسب في هذا الاختبار من خلال التخلي عن كبار السن.
من زواية أخرى كانت تركيا هي الدولة التي تقوم بأكبر عملية إجلاء لمواطنيها من البلدان التي تفشى فيها فيروس كورونا. وفي بدايات ظهور كورونا في مدينة ووهان الصينية، بؤرة الفيروس، كانت تركيا من أوائل البلدان التي تقوم بإجلاء مواطنيها من هناك كما أجلت مواطنيها من إيران ومن 9 دول أوروبية أصيبت بالفيروس، وقد تجاوز عدد من أجلتهم الدولة أكثر من 3000 مواطن.
تعتبر الصفة الثالثة هي تقديم النموذج في الالتزام بالتدابير وقد كان هذا ملاحظا في عمل وزارة التربية والتعليم مباشرة للتوجه لتقنية التعليم عن بعد حيث يوجد أكثر من 120 جامعة في تركيا لديها بنية للتعليم عن بعد، وقد قال وزير التعليم ضياء سلجوق، إن تركيا ستقدم للعالم نموذجا للتعليم عن بعد، مشيرا أن وزارته مستعدة لتنفيذ كل ما يلزم من أجل الحيلولة دون عرقلة تعليم التلاميذ، وتعويض ما قد يفوتهم من دروس ضمن تدابير الوقاية من كورونا. وفي هذا السياق أعلنت الدولة عن توظيف 20 ألف موظف في قطاع التعليم.
حتى كتابة هذه السطور في 19 آذار 2020 تبدو الأمور تحت السيطرة في تركيا مقارنة بأوروبا، مع وجود 3 حالات وفاة و191 إصابة وتدير الدولة عملية مواجهة الأزمة بشكل حازم وهادئ في نفس الوقت وبدون إثارة أي بلبلة أو ذعر بل وتطمح إلى أن تكون من أقل الدول تضررا مع انتهاء الأزمة وأكثرها جاهزية للانطلاق.
الكاتب: محمود سمير الرنتيسي
نقلا عن: تلفزيون سوريا