تشكل آليات السيطرة والهيمنة التي تستخدمها السلطة عموماً، وسلطة الاستبداد خصوصاً، في علاقتها مع المجتمع، العامل الأساسي والأهم في تحويل تنوع وتمايز الهويات الفرعية لعموم المواطنين إلى تمييز بين بعضها وبعضها الآخر، ومن ثم إلى تغليب هوية إحدى الجماعات على هويات الجماعات الأخرى. يتبدى ذلك بوضوح أكبر في الدول التي تحتوي على تنوع ثقافي واسع، والتي تقع في الوقت نفسه تحت وطأة أنظمة استبدادية. وتمثل تجربة سورية في ظل الاستبداد البعثي نموذجاً ملائماً لهذه الأطروحة.
تحررت سورية من الانتداب الفرنسي قبل انقلاب البعث بأقل من عقدين، ولم تكن تلك السنون المعتبرة كافية لبناء نموذج الدولة الوطنية، وتأسيس هويتها على الوجه الصحيح، لا سيما أن تلك الفترة شهدت انقطاعين مهمين للمسار الديموقراطي البرلماني الوليد، تمثلا في مرحلتي الانقلابات والوحدة مع مصر. وفي حين أن فترة الانقلابات كانت المخاض الأساسي لسؤال الهوية الوطنية السورية، والذي تفاعلت فيه العوامل الداخلية مع محصلة قوى الفاعلين الدوليين والإقليميين إبان تلك المرحلة، فتجربة الوحدة، التي حصلت بعد عدة سنوات من الاستقرار السياسي النسبي، كانت وبصرف النظر عن النتائج، أحد، بل أول، الاختبارات العملية المهمة لهذا السؤال.
جاء انقلاب البعث ليقضي على أي أفق محتمل للتطور الطبيعي للحياة السياسية يسمح بإمكانية تشكل هوية سورية مؤسسة ومبنية على عقد اجتماعي طوعي بين عموم السوريين. على العكس، أفضت ممارسات البعث عبر عديد السنين إلى تقويض أسس السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي عبر ممارسات سياسية وتنظيمية على مستوى الدولة اتسمت بغالبيتها بطابع تمييزي. وعلى رغم أن الأنظمة الشمولية تقوم على فكرة إدماج عموم الأفراد والجماعات والطبقات في بوتقة «الأمة»، ففي الحالة البعثية هذه، سرعان ما استحالت فكرة الإدماج تلك إلى اندماج ما بين الحزب الحاكم ومؤسسات الدولة، بحيث تماهى الحزب بالسلطة، ونظام الحكم بالحاكمية، وبدأ العمل على خلخلة التوازنات القائمة إن على مستوى المشاركة في الحياة السياسية وصيانة الحقوق الأساسية لعموم المواطنين على حد سواء، أو على مستوى الوظائف العامة في جميع مؤسسات الدولة، وفي شكل خاص في مؤسستي الجيش والأمن، بناءً على قاعدة الولاء للسلطان، وبمنطق تمييزي كما أسلفنا، قائمٍ على تقريب فئة دون أخرى بما يخدم مصالح النظام بتوطيد أركان حكمه. وهو ما سيودي لاحقاً بالميدان السياسي والاجتماعي العام للسوريين إلى مصيره البائس.
ولا يمكن الركون إلى اعتبار مستوى «الأمن والأمان» في الحياة الاجتماعية اليومية، ومن ضمنها العلاقة بين الجماعات الأهلية، أحد المؤشرات الصحيحة الدالة على جدارة واستحقاق نظام حكم البعث للشرعية، طيلة عقود خمسة من الاستبداد، فكيف بالأحرى اعتباره المؤشر الصحيح والوحيد؟! وبصياغة أخرى، في ظل وجود علاقات القوة والهيمنة، وعلى نحو صارخ كما في الحالة السورية، قد يبدو «السطح» الاجتماعي متوافراً على الكثير من عوامل الثبات والاستقرار، بينما يمور القاع بالكثير من الإرهاصات والتوترات القائمة على أساس هوياتي، والتي تنتقل من حيز الكمون إلى حيز الفعل في المنعطفات الحادة سياسياً واجتماعياً، وتمثل سيرورة الثورة السورية ومآلاتها الحالية برهاناً واضحاً على ذلك.
تشكل المساءلة الجدّية لكيفية إدارة نظام الاستبداد للتعدد الثقافي الموجود على الأرض، وعلاقة ذلك بمفهوم الهوية الوطنية، نقطة انطلاق أساسية وإجراءً مقبولاً للبحث في كيفية بروز الهويات الفرعية، وتموضعاتها ضمن تراتبيات أكثرية/ أقلية، سلطة/ مجتمع، وبالتالي لاستبصار وتبيّن مناطق التوتر الناتجة عن فرض تلك التراتبيات قسراً، وتمييزها عن تلك التوترات المتأتية في شكل طبيعي عن نقاط وحدود التماس بين الهويات.
فالهوية، إلى جانب خصائصها الأساسية كالتعدد والتعقيد البنيوي والدينامية إلخ… هي مفهوم سياقي، أي أنها رهان ونتاج صراعات اجتماعية، تتراكم وتتزاحم فيها مستويات هوياتية عدة تستطيع الجماعة المفاضلة بينها، من خلال محصلة التماهي بين الهوية التي تضعها هذه الجماعة لنفسها، والهوية الافتراضية التي ينسبها الآخرون إليها. ووفق دينيس كوش: «ليس لكل المجموعات «سلطة التماهي» نفسها، إذ هي تتوقف على الموقع المكتسب في نسق العلاقات التي تربط بين المجموعات. وليس لكل المجموعات النفوذ نفسه في إطلاق التسمية وفي تسمية نفسها. وحدهم أولئك المتمتعون بالنفوذ الشرعي، أي النفوذ الذي تكسبهم إياه السلطة، يمكنهم فرض تعاريفهم الخاصة لذواتهم وللآخرين».
وبالنتيجة، نخلص إلى القول إن الهوية تتحدد بدلالة محصلة القوى والعلاقات والتنازعات القائمة بين مجمل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين. أما من جهة أخرى، فهي تتحدد من خلال تموضعها ضمن شبكة المصالح والعلاقات التي تربط السلطة بالمجتمع ككل، وبالجماعات كلٍ على حدة.
وضمن هذا السياق من العلاقات بين سلطة الاستبداد والمجتمع، يتم النظر إلى هوية أو جماعة بعينها وتصنيفها على أنها أكثر «إيجابية» من سائر الهويات والجماعات. وفي واقع الأمر، تستفيد الجماعة المعنية من الامتياز الذي حظيت به من السلطة، لتستبطن في ما بعد إحساساً بالتفوق على الجماعات الأخرى، ولتتحول في نهاية الأمر إلى تمثل هذا التفوق على أنه جوهري وطبيعي، يبيح لها الفوز بهبات السلطان دوناً عن سائر العباد، وتبدي خلال ذلك استعدادها الدائم للدفاع عن تلك المكاسب، أي عن السلطة بطبيعة الحال، فتتم الاستفادة في شكل كبير من أعضاء الجماعة تلك ومن المتماهين معها، في تأمين أركان الملك العضوض. تتمترس تلك الجماعة في حالات التهديد الجدية، تنكمش على نفسها وتتشرنق وتبدأ بالتحول تدريجاً إلى هوية مضادة للمجتمع، كما أن حدودها في النفوذ تغدو مصمتة تماماً.
يصح القول إن التخلص من نظام الاستبداد، وبمعنى آخر تفكيك آليات الهيمنة والسيطرة، يعتبر الخطوة الأولى اللازمة، وغير الكافية بطبيعة الحال، في مسار تحرير هذه الهوية أو الجماعة من «تفوقها» وإعادتها إلى مكانها الطبيعي في النموذج الاجتماعي المتعدد الثقافات.
الحياة – طالب العلي