د.فيصل القاسم
عندما سألت جريدة «وول ستريت جيرنال» الامريكية بشار الأسد قبل أشهر من الثورة عن إمكانية اندلاع الثورة في سوريا بعد تونس، قال وقتها إن «سوريا ليست تونس». وقد ظن البعض أن الأسد كان يقصد أن السوريين راضون عن القيادة، وأن النظام يعتبر نفسه قائداً للمقاومة والممانعة في العالم العربي، وبالتالي فلا يمكن أن يثور عليه الشعب. لكن اليوم، وحسب اعترافات وكشوفات جديدة، فأن الأسد كان يقصد شيئاً آخر تماماً، وهو أن نظامه، على عكس النظامين المصري والتونسي، لن يسمح للثورة بأن تنتشر، وتتطور فيما لو اندلعت، وأنه مستعد لسحقها في مهدها بإطلاق الرصاص الحي على كل من يخرج للشوارع، وحتى تدمير المدن فورق رؤوس ساكنيها.
ولو عدنا إلى الخطاب الأول للرئيس السوري بعد أسابيع قليلة على اندلاع الثورة لوجدنا أن الأسد أكد بطريقة أوضح ما قاله لصحيفة «وول ستريت جيرنال» من قبل. فقد اعتبر في ذلك الخطاب الشهير أن نظامه انتصر في السابق على كل المؤامرات، وكان دائماً يقلب حركة الدومينو رأساً على عقب. بعبارة أخرى كان يعتبر الثورة منذ اللحظة الأولى مؤامرة، وبالتالي سيجعل أيضاً حركة دومينو الربيع العربي تذهب عكس الاتجاه. أي أن كل ما نراه الآن ليس حدثاً اعتباطياً، بل كان مرسوماً بالورقة والقلم منذ ما قبل بداية الثورة.
لقد جادل كثيرون وبطريقة ساذجة أنه لو ذهب الرئيس السوري إلى مدينة درعا مهد الثورة، واعتذر لأهلها عما فعله ابن خالته عاطف نجيب رئيس الأمن السياسي في درعا من تقليع لأظافر الأطفال وإهانة لأهلهم، لكان انتهى كل شيء، ولما تطورت الأمور، ووصلت إلى هذا الوضع الكارثي في سوريا. بعبارة أخرى، فإن البعض اعتقد أن ما فعله عاطف نجيب بأهل درعا كان خطأً فردياً، وكان يمكن تصحيحه بمجرد اعتذار القيادة عما بدر من نجيب. لكن الاعترافات الأمنية الجديدة تؤكد أن عاطف نجيب كان مجرد عبد مأمور ينفذ حرفياً تعليمات ابن خالته بشار الأسد بحذافيرها دون زيادة أو نقصان، فهو لم يقلع أظافر أطفال درعا، ويعتدي على كرامات أهلهم بمبادرة شخصية لأن الأطفال كتبوا على جدران المدارس شعارات معادية للأسد، بل كان مطلوباً منه أن يرد على أي حركة، مهما كانت صغيرة، بأشد أنواع العقاب، تماماً كما توعد الأسد في مقابلته مع صحيفة «وول ستريت جيرنال» الأمريكية من أن نظامه ليس كالنظام التونسي اللطيف.
قبل اندلاع الثورة السورية بأربعة أشهر استدعت المخابرات السورية شخصيات معارضة مختلفة. وفي أحد اللقاءات هدد توفيق يونس رئيس فرع الأمن الداخلي في دمشق، هدد المعارضين الذين التقاهم بأن لدى أجهزة الأمن أوامر صارمة من الرئيس السوري بإطلاق الرصاص واستخدام كل انواع السلاح ضد أي سوري يخرج إلى الشوارع. وأن الدولة مستعدة أن تحبط أي ثورة حتى لو دمرت البلد، وقتلت مئات الألوف من الشعب. ولا ننسى ما قاله الأمين القطري المساعد لأحد شيوخ القبائل السوريين في بداية الثورة بأن النظام مستعد أن يقتل نصف الشعب السوري إذا تطلب الأمر. وكيف ينسى السوريون الشعار الشهير: «الأسد أو نحرق البلد» الذي خرج من القصر الجمهوري، وليس من الشارع. إذاً كان هناك قرار مسبق على أعلى مستوى بسحق الثورة فيما لو اندلعت على طريقة سحق الثورة الخضراء في إيران. ولو عدنا إلى خطاب بشار الأسد بعد شهر على اندلاع الثورة لوجدنا أنه أكد بشكل واضح تهديدات أجهزة الأمن آنفة الذكر في خطابه عندما قال: «نحن مستعدون لمواجهة المؤامرة». وكان يقصد حرفياً سحق الثورة بالحديد والنار. وهذا ما حصل فعلاً.
لو كان عاطف نجيب مذنباً فعلاً وتسبب بمشكلة للنظام، لكان النظام أخفاه وراء الشمس بغض النظر عن صلة القرابة بينه وبين الرئيس السوري. فمعروف عن النظام أنه مستعد أن يسحق أقرب المقربين فيما لو تسببوا له بأذى. لا ننسى كيف تصرف حافظ الأسد مع أخيه رفعت عندما بدأ يقترب من العرش، ولا ننسى كيف أزاحوا علي دوبا وعلي حيدر بسبب كلمة قالها قبل تسلم بشار الحكم. ولا ننسى كيف اغتالوا غازي كنعان ابن النظام المدلل عندما لعب بذيله، ولا ننسى أيضاً كيف اغتالوا آصف شوكت صهر الرئيس عندما أصبح مطروحاً كبديل للأسد في تفجير خلية الأزمة. على العكس من ذلك، مازال عاطف نجيب يدخن السيجار حتى هذه اللحظة في فندق الفور سيزنز في دمشق مع محافظ درعا القديم فيصل كلثوم، لأن النظام اتفق مع إيران قبل الثورة على معالجتها بالطريقة الإيرانية.
قال الإيرانيون للرئيس السوري: «نحن استطعنا القضاء على «الثورة الخضراء» عام 2009 خلال فترة قصيرة، ودفنا الثورة إلى غير رجعة، وأنت بإمكانك أن تدفن الثورة السورية بنفس الطريقة». وقد بدا ذلك واضحاً منذ اليوم الأول للثورة السورية، حيث بدأت المخابرات بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، ومن ثم كانت تنسبها لما يسمى بالعصابات المسلحة. يعني أن النظام لم يفكر إلا بالحسم العسكري وإخضاع السوريين بالحديد والنار عندما اشتم رائحة الثورات في بعض الدول. فإذا كان النظام لا يريد سوى الحسم العسكري، فكيف نصدق الداعين إلى الحل السياسي الآن من الإيرانيين والروس؟ السبب أن العتمة لم تأت على قد يد الحرامي، كما يقول المثل الشعبي. الداعون إلى الحل السياسي الآن يفعلون ذلك فقط لأن مشروع سحق الثورة فشل فشلاً ذريعاً، ولم يعودوا يجدون أمامهم سوى الهزيمة. لهذا كل من يتفاوض مع النظام الآن يخدم النظام، وينقذه من ورطته. لا تنسوا أن بشار الأسد وحلفاءه أرادوا سحق الثورة من اليوم الأول. وبما أنهم أرادوا حسماً عسكرياً، وفشلوا، فلماذا يريد البعض إنقاذهم من فشلهم؟
المصدر: القدس العربي